افتقار العرب إلى نظرية نقدية فاعلة؛ لا ينفصل عمَّا هو أكثر من الالتباس في واقع العرب اليوم.لا ينفصل عن الواقع المغلق الذي لا يُراد الاقتراب من تناول هشاشته وموته السريري الطويل.
الأدب في صورة أو أخرى يعيد تركيب الواقع كما يجب أن يكون؛ ضمن الحال الطبيعية. يقترح صوراً ومضامين تتجاوز ما هو قائم، ويعيد تشكيله بتناولات لا ينتخبها كي ينجو من المساءلة. يتناول الإنسان أولاً في ذلك الواقع؛ وبالتالي طريقة التعاطي معه والنظر إليه ضمن ذلك الواقع. الأدب سابق على النقد؛ وبالتالي دور النقد هو في الإضاءة الغامرة لذلك الأدب وتناولاته؛ وأحياناً قول ما لم يقله النص المراد قراءته بشكل مباشر. يعمد النقد إلى ذلك الدور؛ ولا خطوط حمراء لديه في تلك الإضاءة أو التقريب.
بعد كل ذلك؛ وضمن واقع عربي يذهب إلى ما بعد الالتباس في وضوح هشاشته وانكشافه؛ لا يمكن الحديث عن وجود نقد أو نظرية نقدية فاعلة تقوم بدورها ضمن ذلك الوعي.
من ضمن المادة الخام التي يشتغل عليها النقد عموماً هو الأدب، وإذا كان ذلك الأدب مُسيّساً وموجّهاً ومُحاصراً، ويتم وضع أكثر من خطوط حمراء وموانع وحواجز وممنوعات أمامه؛ فكيف سيتسنى لمثل ذلك النقد أن يقوم بدوره، ويؤدي مهمته، ويتناول من دون ضغوطات وترهيب ما تحويه تلك الأعمال من نقد وإدانة لن تعدمهما؟
وضمن مواده الخام واقع الناس... المجتمعات... سلوكاتها... الظواهر التي تشيع وتترسّخ فيها ويتحول بعضها إلى عُرْف: عُرْف هدّام وقاتل في كثير من الأحيان. التراجع والانهزام والتخلف والهيمنة في بعدها السلطوي المُصادر لكل شيء. كل تلك موضوعات ما لم يقرب منها النقد ويتناولها ويفضحها، ويشير بإصبعه من دون تردد أو مداهنة إلى الذين صنعوا ويصنعون كل ذلك، فلا قيمة له، ويظل ثرثرة ضمن بحور ومحيطات من الثرثرة ستظل تُغرق هذا الجزء من العالم في مزيد من العبث.
النقد الذي لا يبدأ بالواقع لا قيمة له. النقد الذي يتعامى عن الأعمال التي تُضطر إلى الإغراق في الرمز لإيصال قيمة، والتنبيه على خلل قائم، يكون جزءاً لا يتجزأ من الجهات التي تمعن في تدمير الناس والواقع الذي تعيشه.
صحيح أنه لم تتبلور نظرية نقدية عربية متكاملة حتى يومنا هذا، وما نعاينه وتمتلئ به الصحف وحتى المجلات والدوريات المحكّمة، لا يتجاوز ولا يعدو كونه «تجميعاً» و «مزاوجة» لمجموعة من النظريات التي جاءتنا من خارج الحدود، وفي كثير من تجليات الاستشهاد بها، هي على مبعدة تامة وعاجزة حتى عن الإقناع بذكاء توظيفها، في إقحام ساذج في كثير من الأحيان، واستعراض معرفي لا صلة له بالواقع والناس والظواهر التي تتفاقم في المجتمعات التي يعيشون فيها؛ وانغلاق الأفق بسبب الاستبداد على مختلف أشكاله ومستوياته.
ثم إنه من أبسط أدوار النقد هو التنبيه إلى الخلل. ليس من دوره تجميل القبْح؛ والتغنّي بالخيبة والرقص لها. ذلك له أمكنة مغلقة لا يسمح بالدخول إليها إلا للذين يعانون من بطالة واستئناس بالخلل ويعتاشون منه؛ ويجدون فيه نشوتهم ووهْم اتزانهم.
لا شرط أن يكون الخراب شاخصاً في التفاصيل كي يقوم النقد بدوره بإعادة البناء تفسيراً لأسباب شخوصه وليس انشغالاً بالكيفية؛ فحتى الأمم التي يندر فيها الخراب تحتاج إلى نقد يساعدها على تجنّبه والحيلولة دون أن يحظى ببيئة حاضنة له ومشجّعة عليه. فيما هذا الجزء التعيس من جغرافية العالم تَحُولُ بينه وبين نقد بؤسه وتخلّفه وانهياره مجموعات وأطياف وطوابير لن تستطيع التنفس والحركة إلا في ظل استتباب تلك الأوضاع، وبقاء الحال على ما هو عليه.
في محصلة نهائية؛ لن يلتفت القارئ النموذجي لأدب لا يخاطب مشكلاته؛ ولا يعرّيه في الوقت نفسه؛ ولا يفتح نافذة في سجون مرئية وغير مرئية، يطل من خلال على العالم؛ من دون أن يدّعي قدرته على اجتراح الحلول؛ والإجابة على التساؤلات جميعها.
وفي الوقت نفسه لن يتمكن نقد مهما كان «تجميعياً»؛ أو حتى قائماً ونابعاً من ثقافة المكان وحركيته وبجهود المنتمين له، من ممارسة دوره في هكذا واقع، أول بنود المظاهر التي يمكن الوقوف عليها من قبل الذين صنعوا ذلك الواقع هو عدم تجاوز خطوط وهمية مُنِحَت اللون الأحمر!
كأن دوراً طليعياً يمكن للنقد أن يمارسه بمثابة ميلاد يحققه لطرف، وموت لطرف آخر، وحتى غير اللبيب يمكنه التمييز بين العالمين!
بهكذا صورة للواقع، لن يتأتّى لنظرية نقدية أن تقوم وتمارس دورها إلا في ظل فضاء يتاح للنقد في تعامله مع الواقع بكل أطرافه.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4478 - الأربعاء 10 ديسمبر 2014م الموافق 17 صفر 1436هـ