استوقفني مقال للكاتب السعودي محمد المزيني في صحيفة «الحياة» عدد 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، يسرد فيه سلسلة من التساؤلات التي تبدأ بحرف «لو» تتعلق بإخفاقات مرحلة من أهم مراحل تاريخ مصر الحديث والتي شهدت نهضة حضارية شكلية، سرعان ما فشلت وانتكست ألا هي فترة حكم أسرة محمد علي باشا الملكية، وأسباب الانتكاسة تجيب على نفسها بنفسها من خلال سلسلة من التساؤلات «اللوية»، إن جاز التعبير.
ومن أهم هذه التساؤلات: ماذا يمكن أن يحدث لو لم يرتبط اسم محمد علي باشا بشارع اقترن اسمه بالرقص والغناء والدعارة أكثر من اقترانه بعالم الثقافة؟ ماذا لو نُسب إليه بناء قاعدة اقتصادية نوعية متينة تُمكن من الاكتفاء الذاتي من القطن والسكر والحديد والنحاس والزجاج والمطابع؟ ماذا لو نُظر للإنجاز من زاوية الحاجة الوطنية وليس محاكاة قشورية سطحية للتمدن الغربي؟ ماذا لو لم يورط محمد علي باشا دولته في الحروب الخارجية التي لا ناقة لمصر فيها ولا جمل؟ هل كانت دولته تسقط في أقل من قرنين؟ فلا يبقى من ذكراها سوى شارع الراقصين والطبالين ومعالم باهتة من أطلال الماضي؟ ماذا لو لم يكن محمد علي باشا هو المتصرف الأوحد بمقدرات البلد وصاحب القرار المستبد ولم يتعجل ببناء مصر الحديثة محاكاة للأوروبيين على حساب المواطن المصري البسيط؟
وحيث إن مصر شهدت خلال قرنين نهضتين، الأولى كما أسلفنا في عهد محمد علي منذ مطلع القرن التاسع عشر، والثانية حدثت منذ مطلع خمسينيات القرن الآفل خلال ثورة يوليو المصرية والتي انتكست خلال أقل من عقدين. فلعل معظم التساؤلات «اللوية» التي ساقها الكاتب المزيني فيما يتعلق بأسباب انتكاسة النهضة الأولى تنطبق ذاتها في الكلام على أسباب انتكاسة النهضة الثانية خلال حكم الرئيس جمال عبدالناصر: فماذا لو لم يتفرد عبدالناصر عن رفاقه الضباط الأحرار الذين أطاحوا النظام الملكي لأسرة محمد علي باشا وكانت قرارات مجلس قيادة الثورة تتخذ جماعياً وبشكل ديمقراطي تمثل ألوان الطيف السياسي المختلفة التي ينتمي إليها الضباط الاحرار؟ ماذا لو لم يلجأ عبدالناصر إلى إقصاء أول رئيس للجمهورية اللواء محمد نجيب ويُفرض عليه الإقامة الجبرية لفترة طويلة امتدت طوال الحكم الأول؟ وذلك لمجرد أنه كان له والضباط اليساريين خالد محي الدين ويوسف صديق وأحمد حمروش موقف يدعو إلى عودة الضباط الأحرار للثكنات، وعدم حل الأحزاب وإقامة حياة دستورية ديمقراطية!
ولنصرف النظر عن مجمل تلك التساؤلات «اللوية» ولنسلم بالذرائع التي سيقت بأن كل تلك الإجراءات إنما اقتضتها الظروف الموضوعية السياسية التي كانت تمر بها ثورة يوليو وحتمت اتخاذها في إطار ما يُعرف بالشرعية الثورية كمرحلة مؤقتة تمهد لإحلال الشرعية الدستورية وهي المرحلة التي تحولت كما نعلم إلى مرحلة دائمة، ولنطرح هذه التساؤلات حتى في سياق ما سُمِّي بالشرعية: ماذا لو لم تكن علاقة عبدالناصر بالمشير عبدالحكيم عامر قائد الجيش والنائب الأول للرئيس بتلك الحميمية الوطيدة المفرطة إلى درجة تغاضي الأول عن كل أخطائه القاتلة بحق الثورة وبحق مصر؟ هل كانت خسائر مصر في المعارك التي خاضتها خلال العدوان الثلاثي العام 1956 بذلك الحجم المأساوي تحت قيادة المشير؟ وهل كان الانقلاب العسكري ضد الوحدة في سورية ينجح لولا لم يوله على سورية رغم فشله الذريع في حرب 56؟ بل هل كانت مصر والدول العربية تُمنى بتلك الهزيمة الساحقة الماحقة أمام إسرائيل في يونيو 67؟ وهي الهزيمة التي قصمت ظهر مصر والعرب لولا لم يكن المشير على قيادة الجيش المصري رغم ما هو معروف مقدماً عنه بسقوطه في تلك الفترة في براثن الفساد هو وشلة الضباط المحسوبين عليه؟ وأخيراً ماذا لو تحسب عبدالناصر مقدماً لقرب أجله نظراً لتعاظم خطورة مرضه بالسكر بشهادة طبيبه السوفياتي فيعزل أصدق المخلصين لنهجه الثوري السياسي علي صبري كنائب له ويعيّن بدلاً عنه أنور السادات المعروف بتملقه لعبدالناصر وعدم إيمانه الحقيقي بمبادئ ثورة يوليو وبالناصرية حيث انقلب عليها بزاوية 180 درجة فور استلامه السلطة غداة رحيل الأول؟ هل كان لقوى الثورة المضادة أن تحقق كل تلك النجاحات التي أجهزت على مكتسبات الثورة الاجتماعية؟ وتخرج مصر بقيادته من حلبة الصراع العربي الإسرائيلي وترهن نفسها للتبعية الأميركية والرجعية العربية؟
والحال أنه منذ فجر التاريخ السياسي للمجتمعات والدول والتاريخ لا يسير وفق الرغبات المجردة للأفراد والزعماء والشعوب في مسار مستقيم بدون تعرجات وانحناءات، وإلا لما كان التاريخ تاريخاً بخيره وشره، والتاريخ الحديث لا يمكن التحكم في مسار أحداثه ووقائعه لصالح الشعوب إلا وفق الحركات الثورية الواعية التي تعي معمقاً قوانين سيرورة تطور المجتمعات وفي قلبها في عصرنا الراهن الإيمان بصيرورة وأهمية العملية الديمقراطية بمفهومها الشامل سياسياً واجتماعياً كوسيلة للتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للشعوب.
العدد 4476 - الإثنين 08 ديسمبر 2014م الموافق 15 صفر 1436هـ
أهلا وسهلا بالتاريخ
عودة محمودة الى عالم الصحافة