لم يكن التربوي والمثقف والأديب علي الشرقي (1941 - 2014م) ليستكين للراحة لولا ثقل المرض الذي أقعده وامتص منه رحيق العافية، لكن وطأة المرض القاسي لم تنل من قلبه العامر بالمحبة والوفاء، فكان حتى أيامه الأخيرة حريصاً على التواصل مع أحبته وأصدقائه الكثيرين في مختلف مناطق البحرين، يشاركهم أفراحهم وأحزانهم، متشبثاً بالحياة وهو متكوّم على كرسيه الفضي بطمأنينة وشيء من المهابة.
وعندما زرته في منزله في منطقة سار صحبة الصديق حسن سيد علوي الدرازي (زوج ابنته)، والذي قام مشكوراً بترتيب الزيارة، كان في نيتي تسجيل شيء من تجربته في الحياة، وهي تجربة خصبة وثرية، لكني اكتشفت أن الزيارة مع الأسف كانت متأخرة خمس سنين على الأقل، فقد أنهك المرض جسده الناحل واستحوذ الوهن الغشوم على ذاكرته المترعة بتفاصيل وتحولات نصف قرن من التاريخ الوطني غير المدون، وراحت الكلمات تخرج بعسر والصور تنأى وتبعد، وكان منه رحمه الله اعتذار عذب خجول يقطر تهذيباً وسمواً.
واكب الشرقي العديد من المحطات الأساسية والمنعطفات الفاصلة، وهو لاشك كتب ورصد الكثير مما عايشه وسمعه مما لم ينشره في الصحافة أو يودعه بين دفتي كتاب، محطة الخمسينات بكل ما حفلت به من أحداث، مسيرة التعليم الحديث وبدايات العمل الصحافي المحلي، تجربة الاستقلال وأجوائها وملابسات وضع الدستور والتجربة النيابية الأولى وهو القريب جداً من صناع تلك المرحلة، النشاط الثقافي للتيار الديني الذي كان هو واحداً من المساهمين الفاعلين في صفوفه، صداقته الحميمة بالشيخ عبدالأمير الجمري (ت 2006م) والأستاذ عبدالله المدني (اغتيل في 1976م)، التحاقه المبكر بحزب الدعوة الإسلامية وأمانته لسر جمعية التوعية الإسلامية في انطلاقتها الأولى مطلع السبعينات (1972 - 1984م)، كل هذه الأحداث والمحطات شكلت منابع وروافد ثقافية وإنسانية صاغت مرحلة من تاريخ البلاد وشطراً من شخصية الشرقي وفكره ورسمت أدواره في الحياة العامة.
وكان الشرقي أحد المترشحين للمجلس الوطني في السعبينات، وكان مقدراً له أن يكون واحداً من أعضاء الكتلة الدينية فيما لو نجح في الوصول لقبة البرلمان، لكنه خسر المعركة الانتخابية بفارق ضئيل، إذ حصل على (600 صوت) فيما فاز مصطفى القصاب (665 صوتاً) وسيد علوي الشرخات (633 صوتاً) عن الدائرة الثالثة عشرة.
كان من الطبيعي أن ينحاز الشرقي لتطلعات الناس وطموحها في التغيير والإصلاح والعدالة، لذلك وجدناه وقد أخذ موقعه الطبيعي في مساندته للحركة المطالبة بالإصلاح السياسي في التسعينيات، وقد دفع الشرقي ثمناً باهظاً لمواقفه المبدئية تلك، لكنه آثر أن يطوى بمحبة تلك الصفحة مفضلاً نسيان مراراتها الصعبة، وضمن هذا المسير وجدناه بعد انعطافة فبراير/ شباط 2001م مندفعاً بكل حماس لترتيب البيت الداخلي وتحصينه، فكان أحد أبرز الوجوه التي تبنت مشروع تأسيس جمعية الوفاق الوطني الاسلامية.
للفقيد الراحل مكتبتان زاخرتان بالكتب والمصادر النفيسة، الأولى تضم موجودات مكتبة أهل البيت التجارية، والأخرى مكتبة شخصية التي كانت تحتل الدور الثاني من منزله في جدحفص، وقد علمتُ أن محتويات المكتبة الأولى وجزءاً كبيراً من المكتبة الثانية استقرت في مكتبة دار العصمة بموجب صفقة بيع تمت منذ سنوات.
ثلاثة وسبعون عاماً، كان على صاحب مكتبة أهل البيت للثقافة والفكر أن يتنقل فيها بين أعباء النشاط الديني والاجتماعي ومهنة التعليم وممارسة العمل الصحافي في عدد من المؤسسات الإعلامية، فنتاجه الصحفي تناثر في أكثر من خمس صحف (صدى الأسبوع، الأضواء، أخبار الخليج، الأيام، الوسط) وعشرات المجلات من داخل وخارج البحرين (المواقف، الحكمة، نور الإسلام) والتي ضمنها إسهاماته الأدبية والتربوية، كما عمل محرراً ومراسلاً صحافياً بوكالة الأنباء السعودية بالبحرين.
كان الشرقي تواقاً للمساهمة في تنشيط الحركة الثقافية والأدبية في البلاد، ليس من خلال كتاباته في الصحافة فحسب، بل ترجم هذا الولع الثقافي الجامح بنشر الكتب بين الشباب، فكان يحرص على وضع كتيبات صغيرة نافعة في صالون الحلاقة الذي يحمل اسمه (صالون الشرقي) حتى يتسنى لمن ينتظر دوره أن يتصفح هذه الكتب، ويستفيد من وقته، ليخلق بذلك وعياً متقدماً في الأوساط الاجتماعية بأهمية القراءة ودور الكتاب في تنمية الفرد والمجتمع، كما ساهم أثناء نشاط مكتبته (دار أهل البيت) في توزيع وطباعة العديد من الكتب والمؤلفات، منها كتاب (العفاف بين السلب والإيجاب) و (أخلاق الإمام الصادق) للشيخ محمد أمين زين الدين (ت 1998م) إلى جانب كتب أخرى.
وقد صدرت للفقيد مجموعة قصص اجتماعية قصيرة بعنوان: «من مسرح الحياة» معظمها نشر بالصحف المحلية، كما أن له إسهامات شعرية شارك بها في الاحتفاليات والمنتديات الدينية والثقافية والاجتماعية.
اطلعت على بعض المقالات التي نشرها الشرقي في «الوسط» في سنواتها الأولى، وقد شدّني مقال حمل عنوان (المدني والمردي... هل نرى شارعين باسميهما؟)، قال فيه الشرقي: «الوفاء للمبدأ، الوفاء للعطاء... الوفاء للأشخاص الذين رسموا بصماتهم المشرقة وإنجازاتهم المخلصة على خريطة الوطن والأمة، وإعطاؤهم شيئاً مما يستحقون من التكريم المعنوي في حياتهم»... رحمك الله يا أبا محمد، فقد كنت ممن يستحق التكريم في حياتك، وهو دَينٌ مستحق يستوجب الوفاء علينا، وقد رحلت مخلفاً كل هذا الذكر الجميل.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 4476 - الإثنين 08 ديسمبر 2014م الموافق 15 صفر 1436هـ
الله يرحمه
ناس تترك اثر حسن تذكره الناس وتترحم عليهم. اللهم اجعل عاقبة امرنا خير.
الله يرحمه
الله يرحمة برحمته الواسعة. لقد تتلمدت على يديه في مدرسة الخميس الاعدادية