الكاتب والروائي الأميركي، ديفيد فوستر والاس الذي وضع حدّاً لحياته في العام 2008، ترك أعمالاً لم تكتمل، من بينها مجموعة مقالات وخطاب ألقاه في كلية كلينتون في العام 2005، ومن بين ما ترك روايته "الملك الشاحب"، والتي يتناول فيها موظفين (مفتشين) في مكتب للجمارك، يستحوذ عليهم الضجر والملل، في الرواية نفسها يمكن الوقوف على التحليل السايكولوجي للعامل الرئيس، فيما يشبه توحيد المفتشين. كان يريد القول، إن شيئاً ما يكمن هناك وراء الملل والضجر. تبدو أكثر قوة من أعماله السابقة بتناولها عالم المادة، والروح التي تقوم على البيروقراطية المتفشية في تلك النوعية من العاملين. الرواية استغرقت من والاس 8 سنوات ولكنها لم ترَ النور في حياته، وهو الذي ظل يعاني من نوبات اكتئاب حاد، مصرّاً على ألاَّ يتناول أي نوع من الأدوية التي تخلّصه من ذلك الكابوس، وقناعة منه بأنها لن تُحدث كبير فرق. هو نفسه الذي كتب مقالاً في العام 1993، وكان مباشراً بعزمه على حل بعض مشكلات الثقافة الأميركية، والتي حدّدها في الركود الذي تعاني منه منذ سنوات، وكان الطريق إلى تحقيق ذلك، هو في الانفتاح على ثقافات العالم.
الانتحار من شرْفة البيت
لم يكتب له النجاح في ذلك؛ إذ في يوم مفرط في الكآبة، تسلل إلى شرفة منزله بمنطقة كليرمونت في ولاية كاليفورنيا، ولف حبلاً على رقبته ليقضي شنقاً!
لم يتجاوز السادسة والأربعين وقتها، وكان في ذروة مجده الأدبي والمكانة. تفاصيل من ذلك وأخرى تم تتبّعها عن والاس، بمناسبة صدور "الملك الشاحب"، وأيضاً صدور كتاب يشبه السيرة الذاتية عنه، من منظار قارئ والاس كما يرى نفسه، كان عبارة عن مجموعات مقابلات استمرت لخمسة أيام مع "نيويوركر"، كل ذلك في تقرير كتبه دونكان وايت، نشر في صحيفة "التلغراف" يوم أمس الأول الأحد (6 ديسمبر/ كانون الأول 2014)، نورده هنا:
منذ أن عمد إلى الانتحار في سبتمبر/ أيلول 2008، ظل الكاتب والروائي الأميركي ديفيد فوستر والاس مشغولاً! (بالأعمال التي تركها وراءه لترى النور)، الإنتاج بعد وفاته، ذهب عميقاً فيما يشبه المنافسة مع توباك شاكور وفرانز كافكا، بروايته التي كتبها قبل موته، والتي لم تكتمل (الملك الشاحب) وتتكوَّن من 500 صفحة، وكذلك كتابه "هذا هو الماء"، وهو عبارة عن نسخة من خطاب تم إلقاؤه بكلية كينيون في العام 2005، وفيه أراد القول، إنه من المفيد تذكُّر أن العالم لا يدور حولهم؛ أي حول الذين يصنعون السياسات التي نشهد، إضافة إلى أطروحته الجامعية التي تناول فيها موضوعات القدَر والزمن واللغة. يصل بين يدي القرّاء الآن كتابه الهائل والذي يتكون من 1000 صفحة؛ وهو عبارة عن كتابات ملفتة وعظيمة مما قبض عليه والاس؛ تشكِّل مجموعة من الصدمات؛ مليئة بالنشوة ذات المبعث الغامض؛ متضمّنة 150 فصلاً؛ واستغرقت منه نحو 8 سنوات بدءاً من العام 1980؛ من خلال القصص القصيرة التي احتوتها، وكُتبت في وقت سابق، تعود إلى أيام دراسته في الجامعة، وكذلك مواد تعليمية وتعليقات جانبية لم تنشر؛ بعد أن عثرت عليها أرملته كارين غرين.
أن تكون أنت
في السنوات الأخيرة ظهر والاس كما هو في سيرة صدرت عن "نيويوركر" كتبها دي تي ماكس؛ وقد لف رأسه بمنديل وهو يمضغ التبغ، وتم وقتها وصفه بـ "ليونارد"، وهو شخصية في رواية جيفري يوجينيدز "مؤامرة الزواج". وقريباً سيظهر على الشاشة الفضية، في فيلم يستند إلى كتاب صدر في العام 2010 تحت عنون "طبعاً، رغم ذلك سينتهي بك الأمر إلى أن تصبح نفسك"، وهو نسخة غير منقحة من المقابلات التي استمرت خمسة أيام أجراها والاس مع الصحافي في "رولينغ ستون"، ديفيد ليبسكي في العام 1996. وكان مفترضاً أن يلعب دور والاس؛ جيسون سيغيل، والذي تتذكرونه بدوره في فيلم "الدمى المتحركة".
أسْطرة التدمير الذاتي
وقت مزدهر تشهده صناعة والاس اليوم، أليس كذلك؟ يبدو انتحاره سطحياً وساخراً؛ وكأنه خطوة في المهنة جِدُّ حكيمة. بوجهة النظر تلك، والاس هو نفسه كورت كوبين في عمله "خطابات أميركية"، رمز المظهر الرث في تسعينيات القرن الماضي والذي تمت أسطرته من خلال التدمير الذاتي، والقديس الشغوف بجيل الساخطين. وهذا يجعل كلاً من أعدائه (وخصوصاً بريت إيستون إيليس) وأصدقائه (خصوصاً جوناثان فرانزين) غاضبين جداً. بالنسبة لإليس، والاس هو "دجَّال" ارتقى زوراً، وحقق سمعته من الانتحار. وبالنسبة إلى فرانزين، جعله الانتحار شخصاً رائعاً، مُصاباً بالدقة، ومتحوّلاً بذلك إلى "أسطورة عامة".
رومانسية الحزن
حتى الحزن كانت له رومانسيته بالنسبة إلى والاس. ذلك الاستهلاك والإمعان في تعذيب الذات كانت لهما مدعاتهما أيضاً بالنسبة إلى الشاب الذي غادر العالم عن 46 عاماً، وهو منتصف العمر لأي منا.
لا شيء برّاقاً هنالك، يمكن تلمّسه في عملية انتحاره. اعتقد والاس بأنه يعاني أولاً من الاكتئاب ومشاعر القلق، مثل تلك التي تنتاب من لا تزيد أعمارهم على تسع سنوات من العمر. في السادسة والعشرين من عمره، تناول جرعة زائدة من المهدئات، وكان لابد من إخضاعه لأجهزة دعم تبقيه حياً لإجراء غسيل لمعدته. خضع للعلاج الكهربائي بسبب التشنجات التي كانت تنتابه. وبعد ذلك بعام، وتحديداً في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 1989، تم إدخاله إلى مستشفى ماكلين للأمراض النفسية في مدينة بوسطن بعد أن أيقن الأطباء أنه يشكّل خطراً على نفسه. قيل له وقتها، إنه يحتاج للخضوع إلى التخلّص من آثار المخدرات والكحول التي ظل يتعاطاها وإلا فإنه سيموت عند بلوغه الثلاثين. وبعد ذلك بعامين تم إدخاله مرة أخرى إلى وحدة الطب النفسي، وتم تشخيص حالته على أنها اكتئاب سيفضي إلى الانتحار.
علينا أن نذكّر هنا، أنه هو نفسه قال في خطابه أمام الطلبة في كلية كلينتون العام 2005: "إنه لأمر تفوق صعوبته الخيال، أن تبقى واعياً حيّاً، كل يوم، كل يوم". وستجد شيئاً من الصوفية فيما كتب: "اعبدْ جسدك والجمال والغواية الجنسية وستشعر دوماً بالقبح".
عقارات الاكتئاب
من تلك النقطة، استخدم والاس عقار نارديل المضاد للاكتئاب للسيطرة على الحالة التي تنتابه، ولشي من التفصيل، الدواء المذكور، هو من مثبطات المونو أمينو أوكسيديز، ويعمل عن طريق زيادة بعض أنواع النواقل العصبية في الدماغ والمسئولة عن تحسين المزاج، ويستخدم في حالات الاكتئاب المصحوبة بالحزن والخوف والتوتر والقلق على الصحة الجسدية، ويتم وصفه بعد ان تكون مضادات الاكتئاب الأخرى قد استعملت وفشلت في العلاج. ومن نواح كثيرة يبدو أن العلاج ذاك قد عمل عمله.
في العام 1996 نشر والاس "دعابة لا نهائية"، وهي من رواياته العظيمة، والتي جعلت منه واحداً من أكثر الكتّاب تألقاً وإدهاشاً، وأكثرهم عصرية في أميركا. ومع كل قصة جديدة ومقال، نمت سمعة والاس في الأوساط الأدبية.
في العام 2004 تزوج من الفنانة كارين غرين واستقروا في كليرمونت، كاليفورنيا. كان يدرّس الكتابة الإبداعية في كلية بومونا واشتغل على روايته "الملك الشاحب". قرر والاس الانقطاع عن عقار نارديل؛ ما تسبب في تفاقم حال الاكتئاب لديه مرة أخرى. لم يعمل مزيج الأدوية التي تعاطاها عمله في التخلص من حاله تلك؛ حتى بعد عودته إلى عقار نارديل الذي تركه؛ فعمد إلى شنق نفسه في العام 2008، من شرْفته بعد أن قام بترتيب صفحات مخطوطة روايته "الملك الشاحب"، وملاحظات كتبها على صفحتين. كافح والاس طويلاً وبشكل شاق ضد مرضه المزري، وخسر المعركة بوضع حد لحياته.
يشار إلى أن والاس ولد في العام 1962 في مدينة إيثاكا بولاية نيويورك. تلقى تعليمه في كلية أمهرست التي تخرَّج منها العام 1986، كما تلقّى تعليمه فيما بعد في جامعة أريزونا. له من الأعمال روايتان: "مكنسة النظام"، وصدرت في العام 1987، و"دعابة لا نهائية"، وصدرت العام 1996. كما صدرت له ثلاث مجموعات قصصية: "فتاة بشَعْر لافت للنظر" في العام 1990، "مقابلات موجزة مع رجال شنيعين" في العام 1999، و "النسيان" في العام 2004. وإصدارات أخرى تراوحت بين النقد والأدب والسياسة والرياضة والمجتمع.