أرشيف الروائي الكولومبي العالمي غابرييل غارسيا ماركيز يستحوذ عليه مركز هاري رانسوم التابع إلى جامعة تكساس. حط في البلد الذي وضعه على القائمة السوداء، ومنعه من دخول أميركا في خمسينيات القرن الماضي، لعلاقاته مع الحزب الشيوعي الكولومبي، وحركات التحرر في العالم، من دون أن ننسى علاقته بالرئيس الكوبي السابق، فيدل كاسترو.
"يظهر لك الأرشيف نقاط الضعف، والإصدارات التي تم التخلص منها، والكلمات التي تم محوها. أنت في واقع الأمر ترى الصراع في الخلق. خلق الكلمات والشخصيات والحالات بكل ائتلافها واختلافها". تلك كلمات المتخصص في الأدب الأميركي اللاتيني في جامعة تكساس خوسيه مونتيلونغو.
اختفت مكونات كثيرة في الأرشيف قبل التوصل إلى صفقة الشراء التي لم يعلن عن قيمتها، من بينها إتلاف ملاحظات عمله اليومي؛ وشجرة العائلة الخاصة برواية "مئة عام من العزلة".
أفردت صحيفة "نيويورك تايمز" في عددها بتاريخ 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، ملفاً لم يكتفِ بخبر بيع الأرشيف؛ بل كان على هامشه الأهم: تفاصيل تتعلق برؤيته للخصوصية التي لا يريد أن يترك لها أثراً بعد رحيله. هنا أهم ما جاء في الملف:
غابرييل غارسيا ماركيز، الذي توفي في أبريل/ نيسان 2014، عن عمر ناهز السابعة والثمانين عاماً؛ كان ناقداً شرساً للإمبريالية الأميركية؛ وقد منع من الدخول إلى الولايات المتحدة قبل عقود، حتى بعد أن قفزت به روايته "مئة عام من العزلة" إلى الصفوف الأولى من المشاهير الدوليين، وتم منحه جائزة نوبل في الأدب العام 1982.
لكن ماركيز، الذي ولد في كولومبيا وعاش معظم حياته في مدينة مكسيكو، "ذهب الى ولاية تكساس" كما يقولون.
إذ أعلن مركز هاري رانسوم في جامعة تكساس بأوستن، أنه استحوذ على أرشيف غارسيا ماركيز، والذي يمتد إلى أكثر من 50 عاماً، ويحتوي على المخطوطات والدفاتر، وألبومات الصور، والمراسلات والتحف الشخصية، من بينها اثنتان من الآلات الكاتبة من ماركة "سميث كورونا" وخمسة أجهزة كمبيوتر "أبل".
وسيتلقى بلده كولومبيا فرصة تبيان التأثير الذي أحدثه الرجل، كل ذلك في مركز رانسوم؛ من خلال واحدة من المحفوظات الأدبية الرائدة في البلاد والوحيد "في المنطقة الحدودية مع أميركا اللاتينية".
وأشار مدير المحفوظة، ستيف إنيس إلى أنه سيتم الحفاظ على آثار غارسيا ماركيز الأدبية في مركز رانسوم جنباً الى جنب مع تلك التي تخص جيمس جويس، إرنست همنغواي، وليام فولكنر، خورخي لويس بورخيس وشخصيات عالمية أخرى.
وقال إنيس: "إن الأمر تقريباً يبدو كما لو أن جيمس جويس التقى غابرييل غارسيا ماركيز، الذي له تأثير طاغٍ على رواية القرن العشرين؛ وسيجد ذلك بطريقة ما انعكاسه على بلده".
وعن عملية الاستحواذ أوضح إنيس "من المناسب جداً أن ينضم غارسيا ماركيز إلى مجموعاتنا. من الصعب التفكير بالتخلي عن روائي أحدث تأثيراً على نطاق واسع بأعماله الخلّاقة".
تم شراء الأرشيف من أسرة غارسيا، ويتضمن المواد المتعلقة بجميع كتب ماركيز المهمة، من علامته الكبرى "مئة عام من العزلة"؛ وتتمثل في نسخة مطبوعة على الآلة الكاتبة في صيغتها النهائية أرسلت إلى ناشره، وصفحة تحمل عنواناً لأحد كتبه خُطّتْ بيده، مع بعض التصحيحات النهائية لروايته التي لم تكتمل "سنرى بعضنا بعضاً في أغسطس"، والتي وجدت ضمن ما يصل الى عشرة إصدارات، من بينها "الحب في زمن الكوليرا"، ورفض كل من مركز رانسوم والأسرة الإفصاح عن قيمة الصفقة.
"مئة عام من العزلة" التي نشرت باللغة الإسبانية في العام 1967، وباللغة الإنجليزية في العام 1970، أحدثت تحولاً وقفزة في الأدب العالمي، وجعلت غارسيا ماركيز أحد المشاهير في العالم، وظلت على رغم عدد من الروايات اللاحقة التي أصدرها على تفرّدها، الأكثر أهمية للباحثين والمهتمين من النقاد.
وقال المتخصص في الأدب الأميركي اللاتيني في جامعة تكساس، خوسيه مونتيلونغو، والذي زار منزل غارسيا ماركيز في مكسيكو سيتي مع إنيس في يوليو/ تموز لتقييم مواد الأرشيف: "إنها مثل نافذة مفتوحة في مختبر الخيميائي الشهير، الذي لا يحب دائماً فكرة وجود وصفات من الجرعات تكون معروفة بالنسبة له" .
وأضاف مونتيلونغو "يظهر لك الأرشيف نقاط الضعف والإصدارات التي تم التخلص منها، والكلمات التي تم محوها. أنت في واقع الأمر ترى الصراع في الخلق. خلق الكلمات والشخصيات والحالات بكل ائتلافها واختلافها".
غارسيا ماركيز أعرب بالتحديد عن الحذر من احتمال اختيار الباحثين للآثار التي سيتركها. وأشار مونتيلونغو إلى أن الأمر يشبه "الامساك بك وأنت بملابسك الداخلية"، كما صرح لمجلة "بلاي بوي" في العام 1983.
قام ماركيز بإتلاف ملاحظات عمله اليومي؛ وشجرة العائلة الخاصة برواية "مئة عام من العزلة"؛ وفقاً للسيرة التي كتبها جيرالد مارتن في العام 2009.
وبحسب رودريغو غارسيا أحد ابنين لماركيز فإن والده "كان الكمال، والكمال لا يتفاخر بما يحرزه من تقدم في العمل"، وقال في مقابلة: "كان دائماً يقول الحكايات نفسها بالحروف نفسها في كتبه التي يضعها؛ ولكن ستظهر فقط، ويمكن تبيُّنها في نحو 90 في المئة من أعماله هناك".
لم يعترض الابن غارسيا على القول بأن زوجة الراحل، مرسيدس، حفظت مخطوطات من الكتب في وقت لاحق، ولكنه كان "يصر" على تجنب الاحتفاظ بالمواد التي تحوي خصوصية أكثر. وخلال ارتباطهما، تم لأسطورة العائلة ذلك، إذ قام بعرض إعادة شراء رسائل حب كتبها لمرسيدس حتى يتمكن من إتلافها.
وقال غارسيا: "لا أعتقد أنه كان يريد ترك أثر لورقة شخصية"، مذكِّراً بما كان يردّده "ما كنت أريد قوله قد كان. حول كل ما عشت من أجله. كل شيء فكرت فيه، موجود هناك في كتبي".
ماركيز، الذي احتفظ ببضع نسخ من الرسائل الصادرة، من المشاهير في هذا المجال، تقدّر بـ 2،000 قطعة في الأرشيف، تشمل رسائل من غراهام غرين، ميلان كونديرا، خوليو كورتازار، غونتر غراس وكارلوس فوينتس، الذي ناقش في العام 1979 إعداد بريد إلكتروني مع كورتازار "لمناقشة علنية تتعلق بمسألة القوائم السوداء في الولايات المتحدة" (تم رفع حظر السفر عن غارسيا ماركيز، والذي كان السبب الظاهري من ورائه، علاقته بالحزب الشيوعي الكولومبي في خمسينيات القرن الماضي؛ وتم من قبل الرئيس الأسبق بيل كلينتون في العام 1995).
يحتوي الأرشيف على مواد قليلة تتعلق بصداقته مع فيدل كاسترو أو أنشطته السياسية.
وقال ابنه رودريغو: "والدي كان يعتقد بالعمل السياسي من وراء الكواليس"، مضيفاً "كما هو الحال مع كتبه، كان مهتماً بالنتائج، وليس بالضرورة معرفة الناس بما تم القيام به وما حققه".
من جانبه، قال مونتيلونغو: "الأرشيف الذي أعد للبيع من قبل الوسيط جلين هورويتز؛ ولكن لم تتم بعد فهرسته بشكل كامل، يظهر الجانب السياسي لغارسيا ماركيز".
تظل هناك مسألة الرواية التي لم تكتمل. وقال المخرج وكاتب السيناريو غارسيا، الذي يعيش في ولاية كاليفورنيا، إنه ووالدته وشقيقه لم يقرروا ما إذا كانوا سينشرون الرواية، وهي عن امرأة في منتصف العمر متزوجة وترتبط بعلاقة غرامية على جزيرة استوائية. وقد نشرت مقتطفات منها في مجلة "نيويوركر" والصحيفة الإسبانية "لا فانجارديا".
وبحسب غارسيا فإن القصة تلك لم تكن بالتأكيد الحكاية الأخيرة التي أراد والده كتابتها.
يذكر، أن مركز هاري رانسوم، يعد أحد الجامعين البارزين من بين المراكز البحثية في مجال العلوم الإنسانية، لسجلّات كتّاب كبار عالميين، ًومن بين الأكثر شهرة في القرن الماضي، ومن بينهم مؤخراً غابرييل غارسيا ماركيز، ومن قبله جيمس جويس، وليام فوكنر، خورخي لويس بورخيس.