تفترسُ أوقاتَه ضرباتُ الصخب البارد. هل هو الصخب ذاته الذي يتوغل في مساحات الذاكرة؟ ثمةَ شعورٌ غامضٌ عميقٌ حيناً، ثقيلٌ بطيءٌ مؤلمٌ يخترقُ حواجز المكانِ والزمان، لا يبالي، يوظفُ كلَّ قوته ليصبغ الأجواءَ، التي قد تكون حميميةً جداً، بضجرٍ له طعم العبثية واللذة في آنٍ واحد. يجمعُ في لفائفهِ الألفةَ والغرابةَ، يشطبُ أشياءَ من خارطة البياض الكونية، يبني أشياءَ أخرى.
هل هو الحنينُ إلى ماضٍ التفَّتْ عليه أنيابُ الذاكرةِ، وبعثرتهُ في هُلاميةٍ أشبهَ ما تكونُ بالصداع العنيفِ الممزوج برغبةٍ جامحةٍ في الخلودِ إلى النوم من غير قدرةٍ على الوصول إلى لحظة الخلاص المؤقتة تلك؟
النوستالوجيا هو المصطلح الذي يُستخدم لوصف التوق الشديد إلى الماضي، أصل الكلمة يرجع إلى اللغة اليونانية، وأصبح يتردد في اللغة العربية في العقود الأخيرة. في ضوء هذا المفهوم، هل يمكن فهم مُجريات السياسة وأوضاع المجتمعات والبيئات الثقافية في شأن انعدام القدرة على التكيف والتعاطي مع المتغيرات الحداثية، والتعلق بالماضي بصورة تقديسية، وذلك يحدث غالباً على نحو لا شعوري.
مزعجٌ جداً هذا الضيفُ الزائر فارغُ اليدين، على غير موعدٍ يأتي، ويمكث طويلاً. حين يرحلُ، يختفي فجأةً، ينسحبُ حتى يعود؛ وكأنه يترصدُ الفرص، وكأنه يختبئ في الهواءِ أو في فراغِ الحياة...
لعلهُ ينوجدُ مِنْ كونهِ يهشِّمُ دائرتيْ الانسجام والنسيان الصافيتين. أهناك أروعُ وأصدقُ من النسيان صديقاً مُؤنساً ووفياً؟! لعلهُ يكسر روتيناً معيناً من جانبٍ، ليخلقَ عُنفاً، جنوناً جديداً من جانبٍ آخر. لا بأس، ربما جاء ليحفزَ التطلعَ نحو شيءٍ ما في أفقِ ما بعد الخمول، ليرتب إرادةَ الإنجاز والخلق والعطاء مِن بعدِ الاستسلام لسكونية الاستهلاك والكراكيب المعشعشة في النفس. لعله تنبيهٌ إلى ضرورة تغيير القواعد، تبديل طرق التفكير، تجديد الممكن تجديده. لعله تحريضٌ لا مرئي ٌإلى حدِّ فقدان القدرة على التحكم في الأعصاب شيئاً فشيئاً، أو لعله تحذيرٌ مِن الخضوع إلى جمودية النسق، وهذا يحيلنا إلى مصطلح نقدي طالما تردّدَ عند الناقد عبدالله الغذامي.
تكاد تكون صفة إنسانية مشتركة، أنْ لا تتحرك المشاعر حين تتكرر العلاقة نفسها بصورة آلية، أنْ ينطفئ الوهجُ الذي يبعثُ الروح والحياة في جسد ارتباط ما. وإليك هذه النماذج: علاقة الحبيبة بحبيبها، الزوجة بزوجها، الشاعر بقصيدته، القارئ بكتبه، المدير بموظفيه، الحاكم بشعبه... لماذا يقتلها الفتور، يُخمدُ أنفاسها الملل في لحظة ما فجأةً، وتصبحُ عبئاً ثقيلاً. تفتك بها هذه الحالة باستمرار إلى أن تطمسَ كلَّ نقاوةٍ وبهجة كانتا تصطبغان بها. في النهاية يكمل المسار دورته ويصير بحاجة مُلحة لتغيير طبيعة اتجاه السير، وطريقته، وشكله، وإلا حُكِمَ عليه بالتقهقر والتلاشي والانمحاء. هل يمكنُ إسقاط ذلك على علاقة الإنسان بنفسه، على علاقته بالحياة بوجهٍ عام، على علاقته بالملذات، والغرائز، والجنس، والعِلم، والوطن والحبِّ، والدين واللغة وما إلى ذلك؟...
لعلَّ في إسقاط الواقع الشخصي الخاص على الواقع المجتمعي العام ما يحللُّ بعض الإرهاصات والنتائج والفجائع التي وصلت إليها الإنسانية. هناك مَنْ يتشككُ في جدوى الفصل بين الشخصي والعام؛ لكنْ أليس بديهياً أنَّ ما يُشكِّل المجتمع، أيَّ مجتمع، هو مجموع أفراده؟ هذا مِنْ جانبٍ، ولكن من الجانب الآخر: ألا يجب أنْ يُتعاملَ مع الفردِ الإنساني من منطلق كونهِ ذاتاً حرة ومستقلة ومتميزة ومتفردة؟ كيف يتواءم هذا مع ذاك، إذاً؟
العدد 4466 - الجمعة 28 نوفمبر 2014م الموافق 05 صفر 1436هـ