تحدثنا في الحلقة السابقة عن وجود تسلسل للمدارس الفقهية التي قامت في فاران، والتي استمرت حتى القرن التاسع عشر الميلادي قبل أن تندثر، وتندثر معها قرية فاران، وتُهجر قرية الجنبية القديمة. ولكن، لا توجد دلائل آثارية واضحة لمثل هذا التسلسل، إلا أنه يمكننا التنظير لوجود مثل هذه المدارس الفقهية. لا نعلم بالتحديد متى تم استيطان الجزء الشمالي من الساحل الغربي لجزيرة البحرين الكبرى، إلا أننا نرجح أنه كان بمثابة ميناء للمدن الدلمونية التي قامت في منطقة سار المجاورة لها. واستمر كميناء حتى هجرت المنطقة.
ترجح غالبية الدراسات الآثارية أن أقدم ميناء أقيم في كبرى جزر البحرين كان في موقع قلعة البحرين، وهو جزء من ساحل مني ومروزان التاريخي، والذي كان يخدم المدن الدلمونية التي نشأت في هذا الموقع وكذلك في منطقة جدحفص وجاراتها، كما سبق أن ذكرنا في سلسلة الحلقات السابقة. إلا أن هناك دراسات أخرى تشير لوجود موانئ أخرى تخدم مدن دلمونية أخرى في جزيرة أوال، منها المدينة الدلمونية التي شيدت في موقع سار؛ حيث تشير اللقى الآثارية إلى أن هذه المدينة الدلمونية كانت تستورد فخاراً من خارج البحرين يختلف عن باقي المدن الدلمونية في موقع قلعة البحرين؛ وبالتالي يرجح وجود ميناء آخر لهذه المدينة الدلمونية (Carter 2001).
هناك فرضيتان عن الميناء الذي يخدم هذه المدينة، الأولى أن هذا الميناء ربما كان جزءاً من خليج توبلي ممتداً ويصل بالقرب من هذه المدينة في سار؛ حيث تشير الدراسات الآثارية والجيولوجية أن مقطع خليج توبلي كان يتغلغل في جزيرة أوال حتى يصل إلى مقربة من موقع سار الأثري. ونظراً لقلة الدراسات للنظائر المشعة لبقايا الكائنات الحية التي عثر عليها في هذه المنطقة، فلا يمكن تحديد مدى هذا التغلغل وعمق المياه في المقطع (Bush et al. 2005, pp. 339 - 345). إلا أن الفرضية الأكثر ترجيحاً هي أن يكون الميناء هو ساحل قرية فاران المندثرة. وما يعزز ذلك هو تزامن ظهور الآثار الإسلامية في كلا المنطقتين، سار وفاران.
مدن سار وفاران الإسلامية
تشير نتائج التنقيب الآثارية لوجود مدينة / قرية إسلامية مبكرة نشأت في موقع سار الأثري تعود للقرن الثامن الميلادي، وكذلك عثر في مواقع تعود لقرية فاران المندثرة على آثار تدل على وجود استيطان تعود للقرن الثامن الميلادي (Larsen 1983, p. 305). ويعتبر ساحل فاران / الجنبية، الواجهة البحرية الوحيدة القريبة لمنطقة سار حيث قامت المدينة / القرية الإسلامية المبكرة. وهذا يعزز الفرضية أن هذا الساحل كان بمثابة الميناء لهذه المنطقة منذ القدم.
للأسف الشديد لا توجد تنقيبات جادة في موقع قرية فاران المندثرة، ولكن توجد تنقيبات في موقع سار الأثري. وتشير نتائج التنقيبات في موقع سار الأثري على قيام مدينة / قرية إسلامية في هذا الموقع وقد استمرت حتى الحقبة الإسلامية المتأخرة. ومن خلال ما عثر عليه من أضرحة وقبور إسلامية، يبدو أن هناك مدرسة فقهية أنشأت في موقع سار الأثري، وقد كان بها عدد من العلماء؛ فقد عثر فيه على آثار لضريحين بنيا على قبرين، ويرجح أن هذه القبور تعود للقرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين (Kalus 1990, p. 75).
لقد تم تدمير هذه المقبرة الإسلامية في موسم التنقيب 1984م/1985م، وذلك للوصول للآثار الأقدم منها، وقد نقلت ساجات القبور المتكسرة إلى مخازن متحف البحرين الوطني. وقد نقش على هذه الساجات بالخط الكوفي المورق، ومما تم قراءته على إحدى الساجات «أوليائكم» و «آبائكم»، وعلى ساجة أخرى أمكن قراءة سطر واحد هو «ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما» (Kalus 1990, p. 76).
الدرامكة والذاكرة الشعبية
الدرامكة هم جماعة استوطنت الجزء الشمالي من الساحل الغربي، وبالتحديد منطقة الجنبية وفاران وصولاً إلى اللوزي بالقرب من قرية الدمستان. ولا يعرف إلا معلومات قليلة حولهم. وغالبية ما وصلنا عنهم هي معلومات شفاهية مرتبطة بالموروثات الشعبية؛ فلذلك لا يمكن تكوين صورة حقيقية حولهم، وكل ما يمكن تلخيصه هنا عنهم يدور في فلك الفرضيات والنظريات. قيل إن الدرامكة جماعة ثرية جداً، حتى زعم البعض أنهم كانوا بمثابة الحكام الذين حكموا، بأقل تقدير، قرى الساحل الغربي، من بني جمرة حتى كرزكان. وقد ارتبط بثرائهم المثل الشعبي الذي وثقه الشيخ محمد علي الناصري في موسوعته وهو «ادبدب يا بطني مرق الليلة عرس الدرمكي» (الناصري، بدون تاريخ، ص 36).
كذلك زعمت بعض العامة أن جماعة من الدرامكة عملت في حفر أجزاء من القنوات التحت أرضية، التابعة لنظام الثقب والأفلاج في قرى الساحل الغربي. ومن القصص التي علقت في الذاكرة الشعبية أن اثني عشر رجلاً من «الدرامكة» عملوا في حفر الساب العظيم الذي يمر بمنطقة اللوزي ويصل إلى كرزكان، ولكن بدون عمل أي ثقب فيه. وعندما وصلوا إلى العين الرئيسية التي تكون مصدراً للماء، أي التي يصطلح عليها باسم أم الفلج، وعندما حاولوا ربط الساب بالعين، اندفع الماء بقوة في الساب، وجُرف الدرامكة بفعل قوة اندفاع الماء. وهناك مقولة شعبية تلخص هذه الحكاية، وكيف خسر الدرامكة أموال طائلة في سبيل بناء نظام الثقب والأفلاج في قرى الساحل الغربي، تقول المقولة: «يا ماخدة أموالنا، لا يصيبكم ما صابنا، واحنا اثنا عشر درمكي، نبغي زكاة أموالنا».
الدرامكة وعلماء فاران وبني جمرة
المرجح، من الروايات الشعبية والتحقيق بشأن بعض علماء الدرامكة، أن هذه الجماعة، أي الدرامكة، استوطنت البحرين قرابة القرن التاسع الهجري (نهاية القرن الرابع عشر الميلادي)؛ فقد عرف في هذه الحقبة الشيخ عبدالله بن داود الدرمكي وابنه الشيخ داود، والذي ترجم لهما الشيخ محمد علي التاجر في كتابه منتظم الدرين (التاجر 1430 هـ, ج3: ص 363). وهناك من يرى أن الشيخ الدرمكي من عمان؛ وذلك بسبب وجود قرية درمك في عمان والتي نسب لها، انظر على سبيل المثل كتاب «أدب الطف» للسيد جواد شبر (شبر 1988، ج4: ص 319). والمرجح أنه من سكنة البحرين؛ حيث يرجح وجود مجموعة من الدرامكة، سكن العديد منهم في فاران، حيث تتلمذوا في مدارسها، وكان منهم العلماء والشعراء. وكان لهم في فاران مقبرة عرفت باسمهم، مقبرة الدرامكة، وبحسب الرواية الشعبية أن في هذه المقبرة دفن قرابة ثلاث مئة عالم من فاران والجنبية وبني جمرة (العصفور 1993، ج3: ص 135).
ففي القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، ظهرت أسماء لعلماء من فاران وبني جمرة، من مثل الشيخ محمد الفاراني الذي تتلمذ على يده الشيخ حسن الدمستاني (العصفور 1993، ج3: ص 135). ومن أعلام بني جمرة الذين عاشوا في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، وأكثرهم من الخطاطين والأدباء: زيد بن خميس بن يحيى بن حرز بن ناصر بن حرز الجمري الأوالي (الأحسائي 2003، الواحة العدد 28)، ومحمد بن يوسف بن أحمد بن صالح النجيل الجمري الأوالي (مقدمة كتاب «التحفة البهية في إثبات الوصية» library.tebyan.net)، والشيخ حسين بن علي بن سعيد النحيل الجمري (كتاب ملامح تاريخية عن بني جمرة للشيخ عبدالأمير الجمري).
للأسف الشديد لا نمتلك أي معلومات عن هؤلاء العلماء. إلا أنه من الواضح أنهم كانوا جزءاً من مدرسة فقهية عريقة كان مركزها فاران، لكنها كانت تستقطب العلماء من المناطق المحيطة. لقد اندثرت قرية فاران واندثر معها العديد من الإرث التاريخي لها، وقد تغيرت خارطة المنطقة في الوقت الراهن، وظهرت مناطق ومسميات جديدة، هذا ما سنناقشه بالتفصيل في الحلقة القادمة.
العدد 4466 - الجمعة 28 نوفمبر 2014م الموافق 05 صفر 1436هـ