التطور السياسي في شبه الجزيرة العربية من أكثر المجالات حاجةً إلى المزيد من الدراسة والتأريخ وتأصيل هذا التطور، وذلك لعدة أسباب. أولها: الأهمية الإستراتيجية لشبه الجزيرة العربية تاريخياً، ومع هذا افتقدت لكتابة تاريخها بصورة عملية.
ثانيها: أن شبه الجزيرة العربية ظلت طوال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية شبه دائرةٍ في الفلك الغربي من حيث توجهاتها ونظمها ونخبها السياسية الاقتصادية، ما أعطى الانطباع باستقرارها إلى حد كبير، ولم يكن هذا الانطباع صحيحاً على إطلاقه، وإن كان صحيحاً في مجمله. فالنظام السياسي العربي ظلّ نظاماً قبلياً قام على الزعامات القبلية وعلى الدوران في فلك القيادات التقليدية، ولم يكن دور الشعوب كبيراً في العمل أو المساهمة في التطور السياسي. وهذا ليس قاصراً على منطقة شبه الجزيرة، بل معظم الشرق الأوسط، إذ أنه امتدادٌ لفكر ثقافي تقليدي منذ ما قبل ظهور الإسلام وحتى الآن.
ثالثها: إن شبه الجزيرة العربية بوجه خاص والمنطقة العربية بوجه عام، كان بؤرة صراع دولي وإقليمي عبر التاريخ ما بين الروم والفرس، ثم بين العرب المسلمين وبين هاتين الإمبراطوريتين، ثم ما بين الانجليز والفرنسيين منذ عصر النهضة، وبروز أوروبا الحديثة صناعياً وثقافياً وعلمياً. وقد ظهرت دولٌ صغيرةٌ حالياً في أوروبا، وسيطرت على بعض مناطق في شبه الجزيرة العربية أو شبه جزيرة الهند، ارتباطاً بحركة الكشوف الجغرافية، كما هو شأن التوسع البرتغالي في شبه الجزيرة أو بالأحرى على حدودها البحرية، مثل المشيخات في الخليج العربي وخصوصاً عُمان والبحرين.
رابعها: إن شبه الجزيرة العربية منذ الأربعينيات وحتى انتهاء الحرب الباردة، كانت محوراً لصراع إيديولوجيات ثلاث: الإسلامية التقليدية، اليسار الشيوعي، والتيار القومي العربي. وكلٌّ منها لها تفرعاتها ولها ارتباطاتها بالقوى الإقليمية والدولية. وقد تراجع المد القومي العربي بعد هزيمة 1967، وتراجع المد اليساري الشيوعي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، ولذلك انهارت التنظيمات التي ارتبطت بهما. وبرز منذ أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات حتى الآن، التيار الإسلامي الشيعي والتيار الإسلامي السني، وكل منهما له فروعه ومؤيدوه إقليمياً ودولياً. ومن هنا تحوّل محور العمل السياسي من الفكر (الشيوعي) أو (القومي)، إلى الإسلام السياسي بشقّيه، ومن النظم الثورية إلى النظم المحافظة.
ومن هنا تظهر أهمية تدوين التاريخ لمرحلة التطور منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى، وبروز التيارين الشيوعي والقومي في المنطقة العربية، وأثرهما على المنطقة العربية بوجه عام وشبه الجزيرة العربية بوجه خاص. ويلاحظ أنه كما يعيش شباب اليوم في دوّامة الفكر الإسلامي الأصولي بشقيه السني والشيعي، فقد عاش شباب الأمس في دوامة الفكر السياسي الشيوعي أو القومي. وقد أخفق تيار شباب الأمس، وأصبح مصير معظمه الدوران في فلك تيار الفكر، الأصولي الإسلامي بشقيه، أو تيار الفكر الليبرالي الغربي.
وقد جاء كتاب الباحث المهندس عبد النبي العكري المعنون “التنظيمات اليسارية في الجزيرة والخليج العربي” الصادر هذا العام (2014)، ليؤرّخ لتلك المرحلة الانتقالية وشبه المجهولة في تاريخ شبه الجزيرة والخليج العربي. ورغم أنه تاريخ جزئي، إلا أنه بالغ الأهمية... لعدة اعتبارات:
الأول: المؤلف كان جزءًا من حركة النضال اليساري في المنطقة التي يؤرّخ لها، ومن ثم فإن كتابه يستند إلى الوثائق كما يستند إلى الخبرة العملية للباحث.
الثاني: إن الكتاب يسد فراغاً علمياً، فعادةً ما يكتب التاريخ المنتصرون، ولكن هذا الكتاب يؤلفه أحد الأطراف المنهزمة في حركة الصراع السياسي في المنطقة، وهذا لا يقلّل من أهمية الكتاب أو مؤلّفه بالنسبة للتاريخ والباحثين فيه، بل ربما يزيد من هذه الأهمية بمعرفة ماذا كان يدور في المنطقة وكيف أخفق من أخفق؟ وكيف انتصر من انتصر؟
وأنا أعرف كباحث، أننا لا نحب أبداً الحديث على الإخفاق، بل دائماً ندّعي أننا منتصرون، ولكن ينبغي أن نتخلّى عن ذلك. وكما كتبت ومازلت أردد أن ما سُمّي بنكسة 1976، كان هزيمةً مكتملة الأركان، ولم تُدرس بعمقٍ حتى الآن، ويجب على المثقفين والباحثين أن يعبروا عن الموضوعية وعن النقد الذاتي السليم، حتى يمكننا أن نفكر بعقلانية من أجل التقدم.
الثالث: إن الدول الأخرى والكتاب الأجانب كتبوا الكثير عن تاريخنا، ونحن كعرب رسميين ومثقفين قصّرنا في أداء هذه المهمة بأسلوب علمي، ومن هنا تظهر أهمية كتاب عبد النبي العكري بالنسبة لتاريخنا، حتى لا نتركه نهباً للأجنبي، ولكن ينبغي الابتعاد عن المبالغة أو التعصب الفكري أو الديني، ونصوّر أن كل شيء كان على ما يرام دائماً، وأن سبب هزيمتنا هو الأعداء وليس قصور فكرنا وعدم إدراكنا لمراحل التطور وظروف المجتمع الذي نعيش فيه.
وفي هذا المقال لن أتعرض بالتفصيل للكتاب الذي يقع في 287 صفحة، ولكن أشير لبعض الملاحظات العامة.
الأولى: يعرض المؤلف لظروف نشأة تلك التنظيمات اليسارية الشيوعية في كل دولة من دول الجزيرة والخليج العربي، ثم ينتقل لتنظيمات اليسار الجديد بصورة أكثر تفعيلاً. وفي الفصل الرابع يتحدّث عن تحوّلات اليسار في الخليج، ويختتم الباحث بالمراجع والملاحق.
الثانية: إن هذا الكتاب ليس الأول للمهندس عبد النبي العكري، فله العديد من الإصدارات حول التطور السياسي في الجزيرة والخليج العربي والبحرين، ومن ثم فإنه يعد أحد المصادر المهمة للمؤرخين والباحثين عن المنطقة.
الثالثة: أن الكتاب ليس جديداً في بابه، فقد سبق أن صدرت طبعة منه العام 2003، وقدّم له الأستاذ عبد الرحمن النعيمي الذي كان من كبار قيادات تيار اليسار الشيوعي في المنطقة، وله احترام كبير لدى مختلف الاتجاهات اليسارية العربية والعالمية، وهو الأب الروحي لعبد النبي العكري والكثيرين غيره. وقد اتسم بالتواضع خلافاً لتيارات اليسار أو اليمين أو الليبراليين المعاصرين الذين أصبح كثيرٌ منهم يتسمون بالغطرسة والتعالي والغرور، وهو ما لا ينطبق على عبد النبي العكري.
الرابعة: تعرض الباب الأول من الكتاب إلى ظروف النشأة، ويتضمن تحليلاً شاملاً لعوامل تلك النشأة، واتسم بالموضوعية العلمية إلى حد كبير. أما البابان الثاني والثالث فهما سرد للتنظيمات وتطورها وتحالفاتها ومواقفها من مجلس التعاون الخليجي، ومن الوحدة العربية، ومن الثورة الإسلامية الإيرانية، ومن بروز النفط كقوة اقتصادية أحدثت تغيرات جمة في المنطقة، نتيجة الاستفادة منه في التنمية الاقتصادية والاجتماعية في منطقة الخليج العربي وشبه الجزيرة. وكنت أتمنى أن يكون هناك تحليل مقارن لكل هذه القضايا بين الأوضاع في منطقة الخليج وشبه الجزيرة مع باقي دول الشرق الأوسط، العربية والإسلامية، ليمكن التعرف على دور القيادات والنخب والفكر في هذه الدول المختلفة، وما حققته من إنجازات أو ما عجزت عن تحقيقه، حتى يكون تحليلاً تاريخياً بمنهج الفكر الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، ومن ثم تزداد قيمة هذا الكتاب، ومكانة المؤلف.
الخامسة: تتعلق بالمنهج العلمي التحليلي المفتقد، فالكتاب سردٌ لأمور كان الباحث جزءاً منها، ولذلك توارى الجانب التحليلي.
السادسة: لم يستطع الباحث أن يميّز، بين موقفه السياسي وموقفه العلمي، أثناء سرده للأحداث، مثلاً عند الحديث عن البحرين كان صعباً على المؤلف الخروج من موقفه السياسي، بخلاف حديثه عن التطور في قطر. فهو يحافظ على أسلوب السرد دون عبارات تقييمية (انظر مثالاً لذلك في ص 244-246)، فيقول -مثلاً- استفاد التيار الديمقراطي في البحرين من تجربة قطر (ص 245) وهذا ليس كافياً، وكان على المؤلف أن يفصل كيفية الاستفادة، لأن هذا موضع تساؤل منطقي. والمعروف بوجه عام أن البحرين كانت أسبق دول الخليج (بعد الكويت) تطوراً ثقافياً وفكرياً واقتصادياً، فكيف تمت الاستفادة من قطر آنذاك؟
السابعة: افتقد الكتاب -رغم ضخامته- لأمرين: أولهما النقد الذاتي للتيار اليساري من حيث الإنجازات والإخفاقات؛ وثانيهما الرؤية المستقبلية لليسار في المنطقة، وما حدث من تحولات لليسار بالاقتراب إلى حدٍ كبيرٍ من الأصولية الإسلامية، ومن الليبرالية الغربية، ونتساءل: ماذا عن الذاتية والهوية والأصالة لليسار العربي؟ أو عن الليبرالية أو القومية العربية في إطار العولمة أو التغيرات السياسية الدولية والإقليمية؟ وهل فقد اليسار هويته العربية وذاتيته بل ويساريته كما يبدو... أم مازال لديه بعض منها؟
الثامنة: تهنئة للباحث على جهده وعلى إصراره على الكتابة. وملاحظاتي لا تقلّل من قيمة الجهد العلمي، ولكنها تسعى إلى إنارة بعض مجالات تحتاج لتحليل وتدقيق، لعل الباحث يعالجها مستقبلاً حتى تزداد قيمة البحث وأصالته العلمية.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 4465 - الخميس 27 نوفمبر 2014م الموافق 04 صفر 1436هـ
الكاتب وخلاف العنوان
استاذ محمد جلال انت كتبت خلاف عنوان المقال عنوان المقال شيئ وما كتبته شيئ اخر عنونت المقال بالعنوات التالي نظرة على التنظيمات اليسارية في الجزيرة والخليج العربي بينما كان المقال قراءة في كتاب الاساذ عبد النبي العكري فالاحرى بك ان تقول قراءة الى كتاب الاستاذ عبد النبي العكري هذا من جهة ومن جهة ثانية انت لم تسم تنظيم واحد بالاسم وهذا خلاف عنوان المقال من هنا اقول لك يا استاذ محمد كما طالبت الاستاذ عبدالنبي العكري ان يوضح الاستفادة من قطر انا اطالبك بان يكون العنوان يطابق المضمون والفائدة تكون اكبر
من يكتب ؟
من يكتب عن من ؟....
كان في الجزيرة والخليج العربي تنظيمات يسارية و قومية
لم يتبقى منها الا الاسم و التاريخ ، فقد كان يا ماكان في الجزيرة والخليج العربي تنظيمات يسارية و قومية ؛ من وصل إلى الحكم عربد و طغى، و من لم يصل أراد أن يعامل كالأنبياء. و الدور الآن للمتدينون من جميع الطوائف و يخوضونه بنفس الغباء.