اختار الأكاديمي عيسى جواد الوداعي أن يكون إصداره الأول حول «الحركة العلمية في البحرين ... من القرن السابع حتى نهاية القرن الثالث الهجري»، وقد تفضّل عليّ مشكوراً بإهدائي نسخةً من الكتاب الذي كنا نترقب صدوره قبل أكثر من عام، عندما تقدّم مؤلفه لهيئة شئون الإعلام في مايو/ أيار 2013 بطلب ترخيص الطباعة، فظلّ حبيس الأدراج إلى أن انتهت فصول معركة التصريح بطباعة الكتاب في الخارج!
تقديم قراءة مستوعبة وشاملة للكتاب بالطبع قد لا تحتملها طبيعة ومساحة هذه المقالة، لذا سأكتفي بالتعريف بهذا الجهد الأكاديمي الذي يستند في ثراء مباحثه على 16 مصدراً مخطوطاً من تراث علماء البحرين العلمي، إضافةً إلى مصادر ومراجع أخرى مطبوعة، والقارئ الكريم بالتأكيد يعرف أن أغلب التراث العلمي البحريني لايزال أكثره مخطوطاً لم ير النور.
الكتاب يقدّم إلماحةً سريعةً عن طبيعة الحياة العلمية والاجتماعية في البحرين، ولعل أبرز الملاحظات الملفتة فيه أنه يعالج تاريخاً يغطي 700 سنة (سبعة قرون) في أقل من 200 صفحة، وقد يكون للكاتب عذره، ذلك أنني شعرت بأنه مسوق بهدف التعريف بهذا الإرث المجهول للأجيال التي نشأت وهي جاهلة تماماً بهذا التاريخ الذي يغفله التاريخ الرسمي، وتخاصمه مناهج التربية والتعليم، وتجفوه جامعات التعليم العالي، وتتنكر له وزارة الثقافة.
يبدأ الكتاب بالحديث عن المدارس الدينية التي عُنيت بتخريج الفقهاء والمتخصصين في المعارف الإسلامية الأخرى، وتابع نشأة تلك المؤسسات العلمية وتطورها، كما وقف على أسباب شهرتها مروراً بمناهج التعليم فيها، وما شهدته من حراك علمي. كما عرج الباحث على دراسة النتاج العلمي البحريني، ورصد تأثر البحرينيين وتأثيرهم في الوسط العلمي الشيعي (الإمامي) بشكل خاص، فتتبع إسهاماتهم في مجالات الفقه وعلمه، والقرآن وعلومه، والحديث وعلومه، وعلم الكلام، منتهياً إلى رصد الحركة اللغوية في المدرسة البحرينية.
وقد خلص البحث إلى عددٍ من النتائج لعل من أبرزها عراقة وقدم المدرسة العلمية في البحرين بوصفهاً مجمعاً علمياً يلتقي فيه الطلاب، يبحثون ويؤلفون تحت رعاية فقيه أو أكثر. ويمتد وجود هذه المدرسة الإسلامية إلى ما قبل القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي).
الكتاب أبرز الدور المهم للشيخ ميثم البحراني (ت 699هـ، 1299 م) في التعريف بالمدرسة البحرينية وجعلها إحدى المدارس المهمة في التاريخ العلمي الشيعي، وكشف عن اهتمام البحرينيين بالمؤسسة التعليمية، وهو ما تجلى في رفدها بما تحتاج إليه من مصادر مالية من خلال وقف بعض الأوقاف عليها، أو من خلال إمدادها بما تحتاج إليه من كتبٍ ومصادر.
كما أماط الباحث الوداعي اللثام عن الحركة العلمية داخل تلك المراكز التعليمية وتبيين دور الفقهاء في تشجيع حركة البحث والتأليف العلمي، ودلل على اهتمام المدرسة البحرينية بصنوف المعرفة السائدة في تلك العصور، والدور الريادي في تصنيف الموسوعات الفقهية، إذ لم يعرف الوسط العلمي الشيعي هذا النوع من التصنيف قبل الشيخ يوسف البحراني (ت 1186 هـ، 1772 م) مصنف الموسوعة الشهيرة «الحدائق الناضرة».
المؤلف كشف أيضاً عن مناهج تفسير القرآن الكريم في المدرسة البحرينية، فقد بيّن وجود ثلاث مناهج في التفسير: التفسير بالمأثور دون غيره، والخلط بين المأثور واللغة، والتفسير باللغة دون غيرها. كما أخرج تفسير المقابي –لأول مرة– من دائرة النسيان، إذ أوضح الكتاب منهج الشيخ المقابي ناقلاً منه نصوصاً، كما أزاح غبار النسيان عن تفسير الشيخ عبدالله الستري فعرّف منهجه، ناقلاً بعض النصوص المؤيّدة لذلك. كما كشف المؤلف أيضاً عن موقف علماء البحرين من علم الكلام، فأوضح موقف الشيخ ميثم البحراني المناصر لعلم الكلام، وفي المقابل عرض لموقف الشيخ عبدالله السماهيجي المنكر لعلم الكلام.
وقد أوضح المؤلف الوداعي اهتمام علماء البحرين في القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي) وما تلاه بعلم الحديث وعلومه، وتبين مناهجهم في التأليف، وحصر المشتغلين باللغة وعلومها من علماء البحرين وتقديم ثبت لمصنفاتهم اللغوية.
وقد طرح الكتاب قضية تغييب الجانب اللغوي من تاريخ العلماء في البحرين، وقد رأى المؤلف أن عدم الإشارة إلى ذلك إنما كان ناتجاً عن عدم وقوع بعض من اشتغل باللغة من علماء البحرين في طريق الإجازات الفقهية، إضافةً إلى ضياع التراث اللغوي لعلماء البحرين مع ما ضاع من التراث العلمي.
الكتاب محاولةٌ متميزةٌ في مقاربة موضوع مسكوت عنه، وهو أول دراسة أكاديمية باللغة العربية –في حدود اطلاعي- حصرت اهتمامها بتاريخ الحركة العلمية في البحرين، وإن كانت هناك محاولات سابقة تناولت جانباً أو جزئيةً من هذا التاريخ المتشظّي والمبعثر، نذكر منها دراستين على جانب كبير من الأهمية: «الفقيه والدولة... الفكر السياسي الشيعي» لفؤاد إبراهيم، حيث أفرد قسماً في الفصل الثالث من الكتاب للحديث عن البحرين في العهد الصفوي، متقصّياً التجاذبات الفكرية التي عاشتها البحرين في ذلك الوقت، مشيراً إلى أبرز الأطروحات الفقهية التي أنتجتها المؤسسة الدينية.
وكتاب «الفكر السلفي عند الشيعة الإثني عشرية» للدكتور علي حسين الجابري، وهو رسالة ماجستير من كلية الأدب في جامعة بغداد في منتصف سبعينيات القرن الماضي، فقد خصص الفصل السابع من الباب الثاني للحديث عن الفكر الديني في البحرين والعراق، ووقف على ملامح نشأة فكر المدرسة الأخبارية في العراق راصداً أصداءها وأبرز أعلامها في البحرين.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 4462 - الإثنين 24 نوفمبر 2014م الموافق 01 صفر 1436هـ
جهد مشكور
نشكر الكاتب و أيضا المؤلف و إنما المحاربة الرسمية في كل المجالات التي نشهدها لتوثيق تاريخ البحرين اnلعلمي و الأدبي قبل مجيء الأسرة الحاكمة فسببها معروف و هو أنها تثبت التاريخ الصحيح للبحرين بالآثار العلمية و الأدبية و تستنتج منها بديهة التركيبة السكانية. أصيف على ما ذكرت أن رسالة الدكتوراه للدكتورة أنيسة هي عن نفس الموضوع. عن أدب الجزيرة قبل مجيء الأسرة الحاكمة للبحرين فتكون الدكتورة هي أول من سبقت للتوثيق إن استثنينا المصادر الأجنبية و لكن لم يسلط الضوء أحد على رسالتها.
مقال إثرائي جدًا
نشكرك أستاذي على مقالاتك الإثرائية لتاريخ البحرين و جهودك الحثيثة و المثمرة و دوم موفق (بنت الموسوي)
توثيق تاريخنا ضرورة ملحة.
توثيق تاريخ البحرين منذ العصور القديمة الى يومنا هذا اصبح ضرورة ملحة فالكثير منه يطمس بتعمد وبتوجيه رسمي على اعلى المستويات لتغيب هوية هذا الشعب وتستبدل بتاريخ مزيف لا يمت بصلة الى واقع وتاريخ هذا البلد.
مقال جميل
شكرا على هذا الطرح العلمي الجميل. شكراً لجهودك
الشكر لك
الشكر لك على جميل المتابعة
التاريخ المظلوم حتى من اهله
نحن مقصّرون :نعم نحن كشعب مقصّرون في تتبع تاريخنا المجيد ولعل ذلك بسبب تكالب الاحداث والحكومات على هذا البلد وكل حكومة تحاول محو ما يوثّق مكانة اهل هذا البلد واصالتهم
من الضروري تحمل المسئولية
من الضروري تحمل المسئولية والاهتمام بهذا الحقل العلمي الهام
تاريخ البحرين المغيب ...
"...التاريخ الذي يغفله التاريخ الرسمي، وتخاصمه مناهج التربية والتعليم، وتجفوه جامعات التعليم العالي، وتتنكر له وزارة الثقافة."
التعليم الرسمي يخرج معارف منقوصة
يمتاز العصر الرقمي بالمعارف المشطرة التي يُلزم بها الطالب خلال دراساته الأولى إلى المستويات العليا في الجامعات العالمية ،للوصول للمعرفة الموثوقة يتعين التوسع في المعرفة خارج نطاق ما تحدهُ سياسات التعليم الرسمي وحتى حدود سياسات الجامعات التي دائما ما تُلزمها الجهات الداعمة بحدود غالبا ما تحرم الطالب والباحث من إظهار النتائج البحثية للواقع والعلم الصحيح.