كثيرة هي الإصدارات التي تكتفي بقراءتها، من دون أن تعمد إلى إضاءتها. كثير منها تظل مسكوناً به. ذلك سبب لعدم الإسراع في الكتابة عنها. ستأتي الكتابة منفعلة ومندفعة، وهنا تفقد الكثير من تأني النظر إليها.
من بين الأعمال تلك «فرقة البحرين للموسيقى... نوتات التأسيس» للقاص والروائي والفوتوغرافي البحريني حسين المحروس، الصادر عن وزارة الإعلام في العام 2007. مر زمن طويل؛ لكن هل يمنع ذلك المرور من الوقوف عند العمل؟
في الأعمال المرهِقة إزاحة كبرى لعتمة؛ أو تعتيم مَّا في أحسن الأحوال. الأعمال المُرهِقة تلك التي تُعنى بالتأسيس. أن تقترب منها ليس في محاولة للتذكير بتاريخها الأول، والظروف التي قامت بها وعليها. أن تذهب ما وراء ذلك. بمعنى أن تحاول عن بعد محاورة أرشيف. ما استقر في الذاكرة أيضاً. الصورة هي الأخرى تلعب دورها في تلك السيرة.
هل هي كتابة للسيرة؟ ليس شرطاً، على رغم أن للتأسيس سيرة لا يمكن إغفالها، وتحتاج إلى من يستطيع أن يلتقط ذلك (التأسيس) بعيداً عن اليوميات الجامدة والمملة. أن تكتب السيرة تلك، يعني أن تكون جزءاً منها وأن تتمثّلها، وأن تحيا زمنها في صورة وأخرى. الكتابة ستتولى ذلك. قدرتك على التماهي مع السيرة تلك ستتولى ذلك أيضاً.
أن توجد «نوتتك» في تلك النوعية من السيَر. هكذا يفتتح المحروس نبشه وتقليبه واقترابه وتماهيه مع تلك السيرة «لسيرة الموسيقى نوتات أيضاً». هي نفسها نسبة التقليل من الإعاقة في أرواحنا، كما يكتب.
تملك الموسيقى تلك القدرة الطاردة للانشداد إلى اللاجدوى. لن يحدث ذلك مع الموسيقى. في مواجهة مثل ذلك الانشداد ستتيح لك الموسيقى قدرة استثنائية على التحليق بعيداً، وليس شرطاً أن تكون لك أجنحة لتفعل ذلك. هي ستتولى تلك الأداة.
في سؤال عن الموت هذه المرة لأرواح من نوع آخر. الموسيقى إحداها، يلقي المحروس به في وجوهنا. في افتتاح السيرة «لماذا تموت الفرق الموسيقية في البحرين؟ ما سيرة تلاشيها؟ نعم... للتلاشي أيضاً سيرة. ما هو المشهد الموسيقي في البحرين قبل مجيء (فرقة البحرين للموسيقى العربية)؟».
هو الحلم. البدايات كلها مردّها إليه. لا بداية من دون حلم. كأنها المخترع الأول للمحاولات والبدايات والجرأة. من الجرأة أن تحلم، ومن الجرأة أكثر أن تحلم بما بعد ما هو متاح وقائم وممكن.
1975... عبور الحلم
لا غنى عن السيرة في تفاصيلها الأولى. لن تنجو أيضاً من تمرير سيرة تمنحها تلك الوهج: سيرة على السيرة. كيف تكتب، يتم تناولها، تُعالَج، ترى كل ذلك؟
يعود بنا المحروس إلى العام 1975 «تكاد جمعية البحرين للموسيقى والفنون الشعبية، تكون أقرب التجمّعات التي عبر عليها حلم إنشاء فرقة البحرين للموسيقى العربية. فهذه الجمعية التي تأسست في العام 1975 بعضوية كل من: راشد المعاودة، راشد نجم، حسن كمال، علي عبدالله خليفة، أحمد الفردان، محمد جمال،والمرحوم عيسى جاسم، وأحمد الجميري، ظلّت حيّة حتى مطلع الثمانينيات، ولم تلبث أن توقفت. حاول البعض إعادة النشاط إليها لاحقاً بدعم من وزارة الإعلام لكن دون فائدة. ربما هي أيضاً أقصر الجمعيات الفنية عمراً».
تعلق الفنون بما يشبه المجاورة. أن تكون مُجاوراً، أو جاراً للدالِّ عليك، ولو في القليل منه، فتلك فرصة لأن تكتشف ما أنت عليه، ويكتشف الآخر منك ما هو عليه.
يقف المحروس على حركة الاستنهاض التي عرفتها البلاد. يقف على المجاورة تلك بين الفنون. على قدرتها في إحداث التآخي المؤجل بين البشر، قبل التآخي في التوليفات والقيمة التي تقدمها.
تبدو كتابة مثل السيرة تلك معنيّة بالصغير من التفاصيل كي لا تتغافل عن الكبير منها. تبدو في جانب آخر غير منشغلة بالكبير منها كي لا يذوي الصغير منها. كل بحسبان في كيمياء كتابة على تلك الدرجة من اليقظة وتوظيف الالتقاط بذكاء ومكر أيضاً! السيرة التي تخلو من المكر مضجرة. وإن خلتْ على كاتبها أن يبث فيها روح المكر ما استطاع إلى ذلك سبيلاً!
للعام 1995 جانب من تلك السيرة، في تلك الفترة «حدث استنهاض للموسيقى، إلى جوار المسرح والتشكيل اللذين تجاوزا الموسيقى بكثير. يروي عبدالله يتيم (كان هناك إرث تراكمي للفنون التشكيلية خلق لها اندفاعة كبيرة، لكن وضع الموسيقى كان منهكاً فعلاً. كانت الجمعية تحتضر. هنا حدث استنهاض للموسيقى الكلاسيكية الغربية عبر تقوية علاقاتنا بالسفارات؛ ما أدّى إلى إقامة مجموعة حفلات موسيقية كلاسيكية مع دول هذه السفارات ساعد وجود أحد المهتمين بهذه الموسيقى والمحبين لها، وهو عصام الجودر في التنظيم لهذه الأمسيات؛ لكن وضع الموسيقى العربية والتراث الموسيقي في البحرين كان محزناً للغاية...».
قائد و 15 عازفاً
تشكلت الفرقة وقتها تحت اسم «فرقة البحرين الموسيقية» من 15 عازفاً بقيادة محمد جمال. اقتصر عملها على الأفراح والحفلات الرسمية. تشكَّلت من: محمد ناصر، عازف كمان، محمود حسين، عازف كمان، عبدالله خيري، عازف كمان، جمال ناصر، عازف قانون، جمعان زيد، عازق إيقاع، ثاني سالم، عازف إيقاع، ناصر عبداللطيف، عازف إيقاع، محمد جمال، عازف كمان، وقد انضم إليهم لاحقاً، محمد إدريس، رحمه الله، عازف كمان.
كل ذلك بدأ بالحلم. وكما يقول المحروس، تسبق الأحلام الأسئلة. الأحلام المدفوعة بالرغبة إلى ما يمكن رؤيته.
«قبل أسئلة الحلم هذه كان، كان أحمد الجميري قد عاد من القاهرة في العام 1977، بعد أن أنجز دراسته في المعهد الموسيقي، والتحق بوزارة الإعلام. يروي الجميري (عندما عدت من القاهرة كان هدفي الاقتداء بوزارة الإعلام في دولة الكويت، بإنشاء فرقة موسيقية في البحرين. في تلك الفترة لم يكن لديّ علم بالمسائل الإدارية والميزانيات، كل الذي أعرفه أنه حلم أرغب في تحقيقه في يوم من الأيام...)».
سيرة... الذاكرة... أمس... اليوم
ستصادف تواريخ... تشكيلات... إعادة تشكيلات... غياب مؤسس واستبداله بآخر. الأول يركن إلى اللطف والرقة... الآخر جاء من معهد موسيقي عريق... يمتلك الضبط والربط. تحتاج الفرقة الموسيقية إلى نوع من العسكرية لضبط الإيقاع... الانسجام هو الأهم. أي نشاز... أي شطح يمكن أن يحول ذلك البناء الصلب والمعقد إلى بيت من نشاز ووهم. يحتاج إلى دعائم لفرط حساسيته. كان أحمد الجميري هو البديل. البديل في إعادة التشكيل. كل المشاريع التي لا تعيد النظر في ما وقفت عليه مآلها النسيان والانتهاء. لا يراد لذلك المشروع أن يمرّ بذلك الطوْر المُهلِك.
«في صباح الثلثاء الثاني من يوليو/ تموز 1998، أبدى الوكيل المساعد للثقافة والتراث الوطني، عبدالله يتيم رغبته في تولّي أحمد الجميري إدارة الفرقة، يقول علي عبدالله خليفة: (بعد نجاح تأسيس الفرقة، ونجاح حفل الإشهار، حدث تقويم شامل للفرقة تم بموجبه تسليم الجميري إدارة الفرقة بدلاً من خالد عبدالله خليفة. كبرت الفرقة وكانت بحاجة لنقلة جديدة أخرى، طلبت من شقيقي خالد القبول بأمور صعبة من أجل مصلحة الفرقة، أن يتنازل عن قيادة الفرقة على رغم كونه مؤسساً، وكونه الشخص الذي وضع تصور التأسيس...».
الوتر المشدود
في الأمر كله أوتار... الصعوبات التي تواجه قيام مثل تلك الأحلام، هي بمثابة أوتار مشدودة. الذين سيشكّلون تلك الأحلام هم أيضاً أوتار. كيف يمكن لجهة/ جهات خلق تلك المواءمة بين شد الأوتار، وتركها هكذا مرخاة. ماذا عن الأوتار التي ستدخل مشكلة «الهارموني»؟
الأوتار المشدودة، قيمة في كثير من الأحيان. قيمة في تمثيلها لمعوقات ستأخذ بك إلى طريق تحتاج إلى السعي فيها لتصل. الصعوبات تفعل ذلك أحياناً؛ وخصوصاً في المشاريع الأولى. المشاريع التي تؤسس لوعي ليس إضافياً بل هو لازم.
يورد حسين المحروس شهادة عبدالله يتيم في هذا الشأن «من الصعوبات التي واجهتنا المحافظة على المستوى الذي وصلت إليه الفرقة، وهذا أدّى إلى القيام بعمليات نخْلٍ وتقويم لأعضاء الفرقة شيئاً فشيئاً...»، وفي جانب آخر منها «الشك في نجاح التجربة»، وماذا بعد؟ «المبالغة في مسألة البحرنَة»، وهنا الوعي بهذا الهوَس المُكلف في كثير من الأحيان، والذي قد يؤدي بالكثير من التجارب في حال من الحماس والارتجال إلى الدفع بها نحو النهايات القصوى. النهايات بمعنى الاَّ أثر يدل عليها!
يضيف يتيم «في لحظة نسوا فيها فضل الموسيقى العربية، والمؤسسات الأكاديمية العالمية على التجربة الموسيقية كلها في البحرين. يبدو لي هذا موقف شوفيني غير مقبول، وقيل ما هو أشد من ذلك. الفرق الموسيقية في العالم، وفي مصر نفسها يتواجد فيها عازفون من جميع أقطار العالم، فقائد فرقة الموسيقى العربية في مصر هو سليم سحّاب، وهو لبناني. إن جزءاً كبيراً من تجربة الموسيقى والغناء في مصر بني من تواصل مصر بثقافات العالم...».
نهر التجربة وروافده
تجربة كتلك بكل ما واجهته من صعوبات ومعوّقات لابد أن تكون مثار إلهام ومنبعاً له. الذي يخجل لأن الكبار سبقوه سيظل صغيراً. فقط المشاريع... الكيانات... التجارب الصغيرة، أو تلك التي لم ترَ النور بعد، تجد في المشاريع التي استوت طريقاً يوفّر عليها الكثير باستلهامه لروح التجارب تلك.
حقَّقت فرقة البحرين للموسيقى نجاحاتٍ لم تقتصر على أدائها وواقع الحال الذي بلغتْه. ثمة نجاحات ستُكتب لمشاريع ستبرز بعد ذلك. لا أحبذ الكلام عن نجاحات على الهامش. هي نجاحات لها روحها وتوجهها وتجربتها، وإن لم تنفصل عن الدرس والمنطلق.
نشأت فرقة محمد بن فارس، وفرقة أخرى تولت الانطلاق بها مجموعة من الشباب وهي فرقة البحرين للفلامينكو. مشروع تأطير الفرق الشعبية الذي تولّى متابعته جاسم الحربان، في إحياء لا يراد أن ينقطع للفن الشعبي الذي يمثل طيفاً من أطياف روح الفن الأصيل في هذه الجزيرة، بأمسيات موسيقية لفن لِفْجري في مركز الفنون.
يقول يتيم: «وهذا ما لم يكن الناس معتادين عليه، أن نقدم هذا الفن على مسرح، في الوقت الذي يظن الناس أن هذا يمكن أن يحدث في أوروبا. بدأنا نجمع هؤلاء في فرقة كبيرة هي فرقة البحرين الشعبية: فرقة إبراهيم مسعد، فرقة بن حربان، دار اجناع، وفرقة قلالي وغيرها. بدأنا تقديمهم في هيئة فرقة وطنية شعبية للموسيقى (...) شاركنا بهذه الفرقة في بعض الدول، واستطعنا إقناع المعهد العربي للموسيقى بعمل تسجيلات على أقراص (CD) لفرقة البحرين للفنون الشعبية صدر منها قرصCD، وآخر عن فن الصوت...».
حوى الكتاب فصلاً تحت عنوان «فرقة البحرين للموسيقى... نوتات التصوير»، تضمّن أسماء ووجوهاً للذين شكّلوا دعامتها مع نبذة لسيرهم الذاتية: أحمد الجميري، خليفة زيمان، منسقة شئون الفرقة، عائشة حافظ، نجمة عبدالله، حسين أسيري، عادل إبراهيم البنكي، المرحوم راشد مبارك صقر، نبيل محمد النجار، أحمد الغانم، فوزي جلال حسين، سلام سلمان زيمان، علي أحمد محمد عبدالرحيم، أحمد عبدالرحيم محمد، خالد جاسم المطوع، محمود حسين، شريف عبدالستار عبدالعزيز، عماد رشدي، محمد محمود محمد حسن، محمد سامح سويلم، كريستيان بشارة، عنبر فاضل مبارك، صابرين صالح فقيهي، شكري أحمد خيري، عبدالكريم عطية، علي عبدالله الديري، وليد علي بوفرسن، المرحوم محمد إدريس، ثامر كمال أحمد، شريف مجدي مجلي، حامد محسن سيف، طارق كمال زكريا، ثاني سلم ثاني، إبراهيم علي بوفرسن، محمد إبراهيم حمادة، سناء صالح، نورة عبدالله، سعاد عيسى، رحاب الريامي، فاطمة أبل، أفنان رفيعي، أحلام منصور رفيعي، توفيق محمد الريِّس، هشام يوسف جناحي، يوسف عبدالرحيم جناحي، نبيل عبدالرحيم محمد، محمد الحمد، حسين علي الحمد، علي ميرزا عبدالرسول، يعقوب السعد، سلطان بوعلاي، ومحمد مهدي.
حدثت تقلُّبات وتغيّرات. حدث بعد ذلك استبدال وإبعاد وإقصاء وتهميش. هل تتوقف السيرة؟ ستكون ناقصة إذاً، وذلك مدعاة إلى استئنافها. فمن يفتح واقع السيرة اليوم؟
في السيرة تجليات لذاكرة لا يراد لها أن تصاب بالعطب. أن يمسسها النسيان بسوء. ذلك هو اشتغال المحروس بمراجعة بسيطة لأعمال اشتغل وما يزال يشتغل عليها.
العدد 4460 - السبت 22 نوفمبر 2014م الموافق 29 محرم 1436هـ