العدد 4459 - الجمعة 21 نوفمبر 2014م الموافق 28 محرم 1436هـ

الشعر الذي ليس بشعر... تمرد الشعر، تمرد الشاعر

قراءة في مجموعة الشاعر مهدي سلمان «وهذا أيضاً ليس شعراً»

المنامة - جعفر حسن

يبدو من الممكن النظر إلى المبدع على أنه كائن منفلت، بمعنى أنه لا ينقاد لحدود نظرية أو عملية تفرضها عليه إما تقاليد الفن من جهة أو عمليات التسويق داخل المجتمع من جهة أخرى. ويمكننا النظر إلى المبدع من محاولاته الجادة نحو الخروج على تلك الطقوس. نعم سيقول البعض إن المبدعين صاروا يقومون بتسويق منتجهم الإبداعي عبر عمليات معقدة، تبدأ من العلاقة بين المبدع ودار النشر التي تطبع وتوزع للشاعر أو القاص أو الروائي أو الناقد أو غيرهم من المبدعين. وبما أن دور النشر لا يوجد جهاز رقابي عليها في الخليج على الأقل من حيث الدخل وذلك لغياب نظام الضريبة الذي يتتبع مصادر الدخل المختلفة ويفرض عليها نسباً معينة. كما أن هناك غياباً لمؤسسات خليجية تقوم بدور المتحقق من الانتشار والتوزيع على مجالي الصحف والكتب بشكل مستقل.

ولا يوجد لدينا ما يمكن تعيينه كجهة تحدد مدى انتشار الكتب كما في بعض الدول الأوروبية. وفي الأغلب توكل المهمة لبعض المشاريع القطرية التي تنشد ترجمة أو نشر كذا من الكتب أو هي موكلة بإدارة المعارض التي تتحقق من كميات المبيعات. وعادة تشير الإحصائيات بالمجمل إلى كمية الدخل وقد تحدد كمية المبيعات للكتب وتراتبيتها. وعندما تقول دار نشر ما عن أن كتاباً أصدرته قد حقق أولوية في المبيعات والانتشار إنما تستند معلوماتها على جهازها الخاص دون وجود جهة محايدة تفعل ذلك.

لعل ما أثار الحديث أعلاه هو شجن يلحق بالمتابع للساحة الثقافية، ليصل فيها المبدع إلى حالة من الإحباط في توزيع منتجه، فيقوم بإهدار حقوق النشر عبر التنازل عنه مع أننا لا نعرف كيف يمكن أن يقوم هذا التنازل، ولكن عند نشره على الإنترنت، إنما يصبح في متناول الجميع دون الحاجة إلى شراء المنتج من المكتبة. وظهور مثل هذه الظاهرة بين أدباء وكتاب البحرين كما في بلدان عربية كثيرة، تشير إلى ذلك المدى الذي وصل إليه الأديب في مجتمعنا. ويبدو مؤخراً هذا ما فعله الشاعر البحريني مهدي سلمان بعد إصدار خمسة دواوين متتالية كانت على التوالي (ها هنا جمرة، وطن، أرخبيل) 2007م (السكك البصارة) 2008م، (السماء تنظف منديلها البرتقالي) 2010م، (أخطاء بسيطة) 2013م (غفوت بطمأنينة المهزوم) 2014م، بينما أهدر حقوق النشر لتجربته الأخيرة «وهذا أيضاً ليس شعراً» وقد قام بنشرها في الفضاء الإلكتروني على شكل PDF، موزعاً موقعه الذي يستل منه الديوان على جميع الأصدقاء، وهو عادة ما كنا نفعله قبلاً بالنسخ الورقية في عملية إطلاق الكتاب ونقوم بتوزيعه بلا مقابل، ومن وقد وجدنا من حاول أن يبيع منتجه في يوم التدشين بمقابل ما، عادة ما يكون وراءه دافع نحو التبرع بجزء من المبلغ المتحصل للمسائل الخيرية عبر مؤسسات المجتمع المدني.

إلى هنا وقد كنا نتكلم في مسائل معروفة لدى كثير من المشتغلين في هذا المجال، ولكن ما لا يعرف، أن الديوان الذي تنازل عن حقوق تأليفه الشاعر مهدي سلمان يعبر عن صرخة مدوية تضج بالتمرد منذ العتبة الأولى، فإن كان فعل التمرد كما يتصوره كامو في تحليله لصورة سيزيف وهو يعاود التقاط إنسانيته في خلال رحلته التي يتأمل فيها عذابه عندما يتأمل الصخرة المتدحرجة إلى قعر الجبل، فتبدو هذه الثنائية المتشكلة من (العذاب والإبداع) تظهر كشكل حاكم للديوان بكليته فيدفعه العذاب للتمرد بينما يلتقط الشاعر أنفاسه عندما يدخل دائرة الإبداع ليحقق إنسانيته في تعبيره عن تلك الدافع المحرك للفرد (الغضب) من أجل التعاطف مع المجموع ولينحل الأشكال القائم بين مساحة الشعري واللاشعيري عبر الديوان.

فحيث يبدأ الشاعر مهدي سلمان بالتمرد على الأنماط القسرية فإنها تبدأ من حيث يرتقي فيها اسم الشاعر للوحة الغلاف التي جاءت بالأسود والأبيض ربما دلالة على حدية الموقف كما تبرز في التناقض بين البياض والسواد. ومن ثم تنتقل عملية الرفض إلى عنوان الديوان الذي يتنصل من كونه شعراً في عنوانه مباشرة «وهذا أيضاً ليس شعراً»، وبالتالي تتعمق مسألة التمرد الجامحة التي تعود لتؤكد نقيضها. ولتدخل إلى التعريف بالحدود والنوع ليفقد الديوان كل محدد، وإنما يصف مهدي سلمان قصائد الديوان بالنصوص، وهو يعي مسألة اختراق النص للبنى التي تفرضها الحدود الرمادية للشكل الأدبي، ومن ثم يستمر في ذلك بإعلانه على الصفحة الداخلية عن كسر احتكاره الشخصي لحقوق التأليف. ويبدو أن ذلك الموقف قد استمد من جهتين أحدهما تتعلق بطبيعة الشعر الذي بات عصياً على التسليع بذاته منذ تلك اللحظة التي توقف فيها الشعراء عن غرض التكسب بالمديح، وانتقالهم لحالة التمرد التي بدونها لا يصح ماء الشعر وبدنه لا به وإلا فقد ماؤه ورونقه.

يحق للشاعر أن يقول عن شعره نصوص، والتي نرى أنه ظل فيها بين مراوحة القصيدة الجديدة التي ترمي لإبراز اليومي والمألوف بشكل غير مألوف، إلا أن الواقع الاجتماعي في البلاد العربية لم يعد مألوفاً كما كنا نعرفه لنبرزه بصورة جديدة، وإنما مجرد الكلام عنه يزلزل الوجود الإنساني ويطيش بالمشاعر، نعم يرفض الشاعر كون قصائده شعراً لأن جهات تمتلك سلطة كبيرة في مجتمعنا العربي تعيد تعريف الشعر على أن يظل إما طقسياً دينياً أو غرضياً يذهب فيما نحته الأقدمين من أغراض شعرية وأهمها المديح، وبالتالي فإن قصائده ليست شعراً نابعاً من ترف وإنما من غضب.

«قل أنا الطفل من دون أم وأب..

قل أنا ابن الغضب..»

وفي صيحة للتمرد على ما يراد للشاعر أن يكون له درب من الكلام الذي يدور في رحى اللغة التي لا تتوقف، وأن يكون فماً مفتوحاً بالدهشة والخيالات، يريدونه أن يكون كرات من القطن الأملس، ويداً لتسند الخد المنكس ليكتب قصيدة تحلق في فراغ المجهول، وبالتالي فإن ما يكتبه ليس شعراً ذلك أن الشعر يتجاوز في رفضه لكل الدروب المعدة سلفاً، ويبدو أن الشاعر مهدي سلما يصرخ بأعلى صوته أن هذا ليس شعراً بالطبع بحسب ما يراد للشعر أن يكون بدون أن يدل على شيء أو يتكلم عن قضية حتى لو كانت تزكم أنف الشاعر روائحها كل يوم لتسيل دموعه وتوقظ فيه نبض الأنين.

«يريدوننا شعراء وحسب،

رحى اللغة التي لا تتوقف..

الفم المفتوح بالدهشة والخيالات

يريدوننا كرات من القطن الأملس

تتدحرج ناحية اللامكان

يريدوننا اليد التي تسند الخد المنكس..

القصيدة التي تحلق في فراغ المجهول.

أما إن قلت رأياً فيما يجري،

أما إن أشرت بيديك للهاوية،

أما إن عضضت على كف الندم

فهذا ليس شعراً..»

ولنا عودة فيما يأتي.

العدد 4459 - الجمعة 21 نوفمبر 2014م الموافق 28 محرم 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً