في فترة النهضة العلمية في البحرين، خلال القرون الهجرية الأربعة من القرن العاشر حتى الثالث عشر الهجري (من نهاية القرن الخامس عشر حتى نهاية القرن الثامن عشر)، نشطت المدارس العلمية في البحرين، والتي كانت تقوم بتدريس العلوم الشرعية والعقلية على حد سواء، وتصدت لمجموعة أدوار وعمليات ثقافية من تعليم وتدريس ونسخ وكتابة حواشي وتأليف كتب أو مصنفات، ولا يمكن أن تكون مدرسة مشهورة دون أن تتصدى لهذه المهام حتى وإنْ لم نملك وثائق من مصنفات ومخطوطات وغيرها. ومن مهمة هذه المدرسة، أيضاً، إعداد كوادر علمية وتخريج علماء بتخصصات شرعية مختلفة تعينهم على إدارة المجتمع البحراني وتنميته روحياً وثقافياً واجتماعياً، فالهدف العلمي بروح عبادية هي سمة التعليم لدى علماء البحرين وفقهائها (مدن، غير منشور، بدون تاريخ).
إلا أن العديد من هذه المدارس، والفقهاء القائمين عليها، لم يتم توثيقها؛ فقد «تفاوتت حظوظ القرى البحرانية في تدوين المادة التاريخية عن نشاطاتها الثقافية في الفترة المذكورة، وقد وصلتنا نحن المتأخرون مادة واضحة، بل وشديدة الوضوح عن بعضها، وما يزال تراث بعضها غامضاً ومنقوصاً بدرجة كبيرة، ولعل وراء هذه الحالة أسباب يأتي في صدارتها مدى الجهد الذي بذله العلماء وبخاصة علماء كل قرية على حدة في سعيهم لتدوين نشاطها الثقافي، وكذلك مدى نجاح العلماء في تحقيق شهرة داخل وخارج بلادنا البحرين تساعدهم على الوصول للناس، فمنهم من نجح بينما أخفق آخرون، وهذا ترك أثراً في حجم انتشار تراثهم الثقافي» (مدن، غير منشور، بدون تاريخ).
من هذه المدارس المنسية مدارس قرية فاران التي تأسست واندثرت دون أن يتم توثيقها من قبل المتقدمين ولم تذكر إلا شذرات بسيطة عنها في كتب المتأخرين. وسوف نحاول هنا لملمة تلك الشذرات التي ذكرت حول فاران.
حول مسمى فاران
قرية فاران هي إحدى القرى التي شاع ذكرها قديماً في البحرين، وتقع في الزاوية الشمالية الغربية لجزيرة البحرين الكبرى، ولها ساحل، ربما كان ميناءً مهماً في الحقب القديمة. وقد هجرها أهلها وذابت في قريتي القرية والجنبية. واسم فاران اسم له قدسية قديمة؛ فقد ذكر «جبل فـاران» في دعاء السمات الذي يقرأه الشيعة الإمامية، وهو جبل كلَّم الله فيه سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام. والتسميتان قرية فاران وبرية فاران معروفة في الكتب المقدسة وبالخصوص في التراث الديني العبري. فأما قرية فاران فهي في سيناء، أما برية فاران التي بها جبل فاران فقد أختلف في تحديد موضعها بين الكتاب المسلمين والباحثين في جغرافيا الكتب المقدسة، يقول علي زوين في دراسته «شرح المشكل من الألفاظ في دعاء السمات»:
«ذكر الحميري أن جبل فاران يقع في الحجاز. وهي سلسلة منها جبل قريب من مكة يدعى (جبل فاران)، وذكر ابن طاووس أن الرسول (ص) كان يناجي الله جل جلاله عليه. وما ورد في الكتاب المقدس خلاف ذلك إذ تطلق كلمة (فاران) على الصحراء التي جاء فيها بنو إسرائيل (صحراء التيه). يحدها من الشمال صحراء الملح وأرض كنعان، ومن الشرق وادي عربة الذي يفصل بين فاران وجبال موآب وخليج العقبة، ومن الجنوب دبة الرملة التي تفصل بينها وبين جبال سيناء، ومن الغرب صحراء الشام التي تفصل بينها وبين خليج السويس ومصر» (زوين 2009).
حول ذكر قرية فاران
أقدم ذكر لقرية فاران جاء في ديوان أبي البحر الخطي (توفي العام 1618م). وقد عاش الخطي مجاوراً لهذه المنطقة؛ فقد عاش في منطقة سار التل، بالقرب من قرية سار التي كان يسكن فيها صديقه الغنوي، الحسن بن محمد بن ناصر بن علي بن غنية الهذلي، وهو أديب وكاتب، وهو جامع ديوان الخطي (العوامي 2005، ص 143). وقد تجول الخطي في فاران والجنبية، وقد ذكر كلتا القريتين في ديوانه. قال الخطي في ذكر فاران:
ما كنت بالمبتاع دار سرورها
يوماً بفاران ولا بمقابا
كذلك، ذكر قرية فاران الشيخ عبد الله العرب الجمري (المتوفي العام 1921م) وذلك في تعليقه في إحدى حواشي كتاب «أنوار البدرين» وذلك في أسفل إحدى الصفحات التي جاء فيها ذكر الشيخ حسن الدمستاني فعلق الشيخ عبدالله العرب أن الدمستاني كان يروي «عن الشيخ محمد الفاراني، نسبة لقرية من قرى البحرين من الجانب الغربي، وآثار مدرسته باقية إلى الآن، ولم أقف له على ترجمة» (مدن، غير منشور، بدون تاريخ).
وممن ذكر قرية فاران من المتأخرين الشيخ إبراهيم المبارك في كتابه «حاضر البحرين»، وجاء فيه: «فاران كهامان، وهي اليوم خراب وتكتنفها نخيل ومزارع، قيل أن أصل سكانها من بني هاجر سكنوا فاران ثم الجنبية والقريَّة مصغر قرية» (المبارك 2004، ص 45). وقد أعتبر المبارك فاران بمثابة البلدة التي تتكون من أكثر من قرية؛ حيث يرى المبارك أن قرية القُرية والجنبية ما هي إلا قرى من بلدة فاران (المبارك 2004، ص34 و45).
علماء ومدارس فاران
ذكر الشيخ علي العصفور في كتابه «بعض فقهاء البحرين» أن فاران، وكذلك، القريَّة والجنبية وبني جمرة كانت «من البقاع المقدسة التي حوت من العلماء ما يعلم الله بنسبة عددهم، ويحكي أهل القريَّة أن أكثر من ثلاثمئة عالم قد قبروا في مقبرة الدرمكية، منهم من مات شهيداً لسبب القلاقل والهزَّات التي هزّت البلاد في زمانهم، ومنهم من مات بانقضاء الأجل» (العصفور 1993، ج3: ص 135).
ومن آثار المدارس التي لازالت باقية، آثار مدرسة الشيخ محمد الفاراني، الذي تتلمذ على يديه الشيخ حسن الدمستاني وغيره من علماء القرن الحادي عشر الهجري (القرن السابع عشر الميلادي). وآثار مدرسته توجد حالياً في مقبرة فاران بالقرب من قبره، المعروف حالياً بقبر العبد الصالح، وقد بني عليه ضريح جديد. كذلك، مما تبقى من أضرحة فاران قبر الشيخ علي بن الشيخ سليمان الجمري. وبحسب تحقيق الشيخ عبدالأمير الجمري في كتابه «ملامح تاريخية عن بني جمرة»، فإن الشيخ سليمان الجمري هذا هو الجد الأكبر الذي تنتمي إليه إحدى أكبر العائلات في بني جمرة، والتي ينتمي لها الشيخ عبدالأمير الجمري والملا عطية الجمري. والشيخ علي ليس ابنه المباشر بل هو أحد أحفاده، عاش في القرن التاسع عشر الميلادي، وقد كان يمتلك نخلاً في الجنبية، وقد وجد مقتولاً فيها، ودفن بالقرب من مقبرة فاران وبني عليه ضريح لا زال باقياً حتى يومنا هذا.
ومما تبقى من مدارس فاران، مدرسة تنسب للشيخ الفاراني تسمى مدرسة الإمام الحسن (ع)، وتوجد في منطقة القُرية، على شارع الجنبية، وهي مدفونة تحت تل، وقد عثر فيها على آثار تعود للقرن التاسع الميلادي (Larsen 1983, p. 305). وقد بني بالقرب منها جامع كبير لمنطقة القرية، سمي باسم المدرسة، «مسجد الإمام الحسن (ع)».
إن قيام مدرسة علمية في فاران، وبروز حركة وجود فعلي لبعض علمائها، وظهور أدوار وعمليات ثقافية في وسطها الداخلي، ومدى تدرج هذه الأدوار في تحقيق مستويات علمية وتتابع خطواتها العلمية المتصلة، تدل على وجود خطوات متعاقبة في التكوين والمتابعة بحيث تؤسس فيها كل خطوة لاحقة على الخطوات السابقة. فمدارس فاران هي امتداد لمدارس أقدم منها. ربما لا يمكننا الاستدلال بعلم الآثار حول قدم هذه المدارس في فاران، إلا أن هناك آثار لأضرحة علماء تعود للقرن الثاني عشر الميلادي توجد في المناطق المجاورة لها، وهذا ما سنوضحه في الحلقة القادمة.
العدد 4459 - الجمعة 21 نوفمبر 2014م الموافق 28 محرم 1436هـ