نسمع كثيراً عن أشباه «ومفردها شبيه وليس شبه» للحكام وكبار السياسيين والقادة، ولطالما كانت هناك مزاعم حول نيابة هؤلاء للحكام في الظهور العلني وحين تحدق المخاطر، لكننا لم نسمع أبداً بشبيه تسنى له أن يحكم وأن يغير سياسات داخلية وخارجية. يمكن لذلك أن يحدث فقط في فيلم سينمائي مثل الفيلم الكوري «Masquerade» (حفلة تنكرية) الذي يتحدث عنه هذا المقال.
بدا الأمر في الفيلم كالحلم، حلمت إحدى الشخصيات بإمكان قيادة الشبيه للبلاد والأخذ بها لبر الآمان، وحلم الشبيه بأن يكون ملكاً يسعد شعبه، وربما كان ذلك حلماً لكاتب الفيلم الذي استقى قصته من مادة تاريخية أعاد كتابتها، ليطرح سؤالاً آخرَ عمّا إذا كان بالإمكان إعادة كتابة التاريخ بالشكل الذي فعله في الفيلم. هذا الفيلم سيكون افتتاحية مهرجان الأفلام الكورية الذي ينطلق يوم الخميس المقبل (27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014) بتنظيم من السفارة الكورية في البحرين. ويعرض المهرجان ثلاثة أفلام كورية في التواريخ التالية: (27 نوفمبر، 4 و12 ديسمبر/ كانون الأول 2014) في قاعة متحف البحرين الوطني.
أنتج هذا الفيلم في العام 2012 وهو واحد من أنجح الأفلام الكورية، بل إنه يأتي الرابع على قائمة الأفلام الكورية التي حققت أعلى المبيعات على شباك التذاكر، إذ تجاوزت التذاكر التي بيعت له 12 مليون تذكرة.
يعيد الفيلم كتابة وسرد فترة تاريخية مهمة في تاريخ كوريا وبالتحديد في تاريخ مملكة جوسون وهي إحدى الممالك الكورية التي حكمت لخمسة قرون، وذلك في الفترة (1392 - 1897). الفترة التي يستعرضها الفيلم من عمر هذه المملكة هي التي تولى فيها الحكم الملك غوانغ هي. لن يسرد الفيلم الحقائق التاريخية بتفصيلها الحقيقي ولا بوقائعها التي حدثت، لكنه سيغير كثيراً مما حدث، سيعيد كتابة تاريخ هذه الفترة، سيحول هذه الفترة إلى مادة فيلمية فنية شكلت فيلماً درامياً تاريخياً Costume drama هو واحد من أنجح ما قدمته كوريا الجنوبية من أفلام خلال الأعوام القليلة الماضية.
عنوان الفيلم الفرعي هو «The Man Who Became a King» (الرجل الذي أصبح ملكاً)، يمكن تفسيره بأكثر من معنى، ويمكن أن يكون إشارة للملك، أو للرجل الذي يشبه الملك، تماماً كما هو التاريخ الذي أعيدت كتابته وربما أعادت تفسيره وتأويله.
في الفيلم يشك الملك غوانغ هي في كل من حوله من حاشية ووزراء وخدم وطباخين، يعرف أن هناك مؤامرة لقتله عبر تسميم طعامه، ولذا يبالغ في تعنيف الخدم، يجبرهم على تناول الطعام حين يشك كونه مسموماً، ويبدو بارداً، شديد البرود مع وزرائه، بل إنه يبدو سلبياً للغاية في التعاطي مع شئون البلاد، يترك الحبل على الغارب لثلة من وزراء ومستشارين فاسدين، يعيثون في البلد فساداً كثيراً، تتغير القوانين تبعاً لمصالحهم. يزداد الفلاحون فقراً، وتتضخم جيوب الأغنياء بفعل قوانين معطلة أو أخرى تسن لصالح الأغنياء.
يطلب الملك من وزيره الأول إيجاد شبيه له يمكن استخدامه لكشف المؤامرة ضده، وينطلق الوزير باحثاً عن ذلك الشبيه في جميع أرجاء البلد. أخيراً، يجده، مهرجاً واستعراضياً في حانة. بل إنه وحين يذهب لرؤيته، يجده يقدم فقرة ساخرة من الملك غوانغ هي ومن علاقاته النسائية الكثيرة.
لكن هذا الشبيه الذي سيستخدم يوماً لحماية الملك لا يلقى معاملة إنسانية في القصر، بل يسجن بعيداً من قبل الوزراء ويعذب في سجنه نظير سخريته من الملك.
لا يفك سجنه إلا حين يدخل الملك في غيبوبة، ولا يعرف طبيبه علاجاً له، ويجد الوزير الأول نفسه في وضع لا يحسد عليه. شيوع أخبار مرض الملك قد يؤدي إلى فوضى في القصر وربما لأن ينقّض الوزراء الفاسدون على العرش ويستولون على الحكم. هنا بدت الحاجة ماسة إلى المهرج الشبيه، يتم استدعاؤه من سجنه ويؤمر بأن يمثل دور الملك، أمام كل بلاط وحاشية القصر. تتغير الأمور ليجد الجميع أنفسهم أمام ملك مصلح يؤمن أو لا وقبل كل شيء بشعبه وبحقوق أبنائه. يتحول الملك الغاضب إلى آخر ضاحك، وتعاف نفسه كل المحظيات فيما يركز على استعادة علاقته العاطفية مع الملكة.
لن أطيل في تفاصيل ما سيحدث حين يدخل المهرج إلى القصر ويمثل دور الملك، سأترك الأمر للمشاهدين للاستمتاع بكل الأجواء الدرامية والكوميدية وحتى الرومانسية الجميلة في الفيلم، ولمشاهدة الأداء المتقن والبارع لكل الممثلين، وخصوصاً من أدى دور الملك ودور المهرج، إذ تمكن من تقديم شخصيتين متناقضتين في آن واحد. الأدهى من ذلك تقليده لأدائه، في تلك المشاهد التي يحاول فيها المهرج ضبط نبرة صوت الملك. أداء رائع ترفع له القبعة بحق.
إضافة إلى ذلك سيستمتع مشاهدو الفيلم بالإخراج المتقن، بالصورة السينمائية المذهلة، بالموسيقى، بحبكة السيناريو المكتوبة برصانة وعمق ومعرفة واضحة بالفترة التاريخية التي يتحدث عنها الفيلم، كما يكشف عن ثقافة حقوقية وقانونية، عالج الفيلم من خلالها، بعجالة، علاقة الحاكم بالمحكوم وطرح رؤية وإن كانت متواضعة لكيف يمكن استئصال الفساد وإعادة الحقوق. الفيلم يستحق بالفعل أن يحقق المبيعات التي حققها على شباك التذاكر، وأن يفوز بكل الجوائز التي فاز بها والتي بلغت 23 جائزة حصل عليها من 6 مهرجانات سينمائية دولية.
أجمل ما في الفيلم هو التساؤلات الكثيرة التي يطرحها في ذهن متلقيه حول إمكانية إعادة كتابة تاريخ ملك حقق من الإنجازات الكثير لبلاده، لتنسب تلك الانجازات إلى آخرين. عدا عن ذلك يثير الفيلم الكثير من الفضول لدى المشاهد فيدفعه لمزيد من الاطلاع على تلك الفترة في تاريخ كوريا.
حقق الملك غوانغ هي في واقع الأمر الكثير من الإنجازات لبلاده على المستويين الداخلي والخارجي، أصلح القوانين وأعاد للشعب كثيراً من حقوقه، لكن الفيلم ينسب تلك الإنجازات لمهرج يشبه الملك. كان الملك ابن محظية، لكنه في الفيلم يود الزواج من محظية بعد أن أصبحت حاملاً منه. لم يكن هناك شبيه للملك لكن الشبيه نسبت له كل الإصلاحات في الفيلم. المتآمرون ضد الملك هم إخوته ووزير فاسد (هو خال لأحد الإخوة)، لكن الفيلم ينسب المؤامرة لمجموعة من الوزراء. يشير الفيلم إلى أن للملك كثيراً من المحظيات، تجعل المهرج يفغر فاه حين يطلع على قائمة بأسمائهن، لكن الواقع هو أن الملك كان ابن محظية!. إنجازات الملك أكبر من تلك التي ذكرها الفيلم، موقفه من الإمبراطوريات الصينية التي كانت طامعة في مملكته كان دبلوماسياً اتخذ نهج الحيادية ولم يكن عسكرياً. يُنفى الملك ويموت وحيداً مع الملكة ولا يبنى له نصب على عكس نهاية الفيلم التي بدت وكأنها نصر للملك. على أية حال الفيلم رائع ومشوق ولا تفسد تلك التغييرات من جمالياته وبراعة صنعه.
لكن يبقى السؤال هل يمكن إعادة كتابة التاريخ كما حصل في الفيلم من أجل مادة فنية، وخصوصاً حين تكون تلك المادة فيلماً هو قمة في الروعة والإتقان.
الفيلم يعرض مساء الخميس المقبل في قاعة متحف البحرين الوطني... يستحق المشاهدة... بجدارة. ويعرض المهرجان إلى جانب ذلك فيلمين آخرين يعرضان في الموقع ذاته هما فيلم لصوص «Thieves» ويعرض مساء الخميس (4 ديسمبر 2014) وهو من إنتاج العام 2012، وفيلم «معجزة في الزنزانة رقم 7» Miracle in Cell No. 7 وهو أيضاً من إنتاج العام 2012، ويعرض مساء الجمعة (12 ديسمبر 2014).
العدد 4459 - الجمعة 21 نوفمبر 2014م الموافق 28 محرم 1436هـ