بعد أن باحت المحطة الانتخابية الأولى في تونس (الانتخابات التشريعية في 26 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي) بأسرارها، ها هم الساسة والمرشحون والأنصار يستعدون على قدم وساق، في مشهد تاريخي لم تر له تونس مثيلاً منذ الاستقلال، للاستحقاق الانتخابي الثاني ألا وهو الانتخابات الرئاسيّة في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني. وتكتسب هاتان المناسبتان بعداً تأسيسياً على أكثر من صعيد؛ إذْ هي تنتقل بالبلاد من وضع المؤسسات الكفيلة بحياة سياسية ديمقراطية إلى إرساء عادات سياسية جديدة على غرار نشر ثقافة تقبل الهزيمة وتهنئة المنتصرين، والتمرّس على قواعد الممارسة الديمقراطية وآليات الانتخاب النزيهة والشفافة من خلال بعث هيئة مستقلة تشرف على الانتخابات بمعزل عن تدخلات السلطة التنفيذية.
وقد نظم دستور تونس الجديد، وتحديداً الفصل 75 منه، مسألة انتخاب رئيس الجمهورية كالآتي: «يُنتخب رئيس الجمهورية لمدة خمسة أعوام خلال الأيام الستين الأخيرة من المدة الرئاسية انتخاباً عاماً، حراً، مباشراً، سرياً، نزيهاً، وشفافاً، وبالأغلبية المطلقة للأصوات المصرح بها. وفي صورة عدم حصول أيّ من المترشحين على الأغلبية المطلقة في الدورة الأولى، تنظم دورة ثانية خلال الأسبوعين التاليين للإعلان عن النتائج النهائية للدورة الأولى، ويتقدّم للدورة الثانية المترشّحان المحرزان على أكثر عدد من الأصوات في الدورة الأولى (...) ولا يجوز تولي رئاسة الجمهورية لأكثر من دورتين كاملتين، متصلتين أو منفصلتين (...)».
وقد بلغ عدد المترشحين الفعليين للانتخابات الرئاسية خمساً وعشرين في تونس بعد الانسحابات المسجلة إثر نتائج الانتخابات التشريعية والتي حملت من المفاجآت الكثير؛ إذْ إنّ بعض المترشحين للرئاسية لم يستطع اقتلاع مكان في البرلمان على مستوى دائرته الانتخابية فكيف بالمقارعة من أجل الرئاسة؟
ولئن فسّر البعض ارتفاع عدد المترشحين بأنه ظاهرة صحية طبيعيّة بعد عقود من الحرمان، فقد عزاه البعض الآخر إلى التشتت الذي تعرفه الأحزاب التونسية وتهافت عدد من السياسيين وغير السياسيين على الوصول إلى منصب رئيس الجمهورية.
ويمكن إرجاع أنواع المترشحين إلى أصناف بحسب معيار التصنيف المعتمد، غير أنّ اللافت هو ترشّح المرأة التونسية على أساس الفصل 74 من الدستور الذي يمنح الحق لكل ناخبة أو ناخب تونسي الجنسية منذ الولادة، دينه الإسلام الترشح للانتخابات الرئاسية وهو سابقة في تاريخ تونس والعالم العربي، بل لعلّه أمر مهمّ ومصيريّ ومشرّف، والمترشحة النسائية منافسة جدية وليست صورية كيف لا وهي القاضية كلثوم كنو رئيسة جمعية القضاة التونسيين سابقاً.
ومن جهة أخرى، نجد العنصر الرجالي يحضر بقوة وعلى ألوان شتّى تعكس الفسيفساء الذي يسم النسيج السياسي التونسي؛ فمن ناحية نجد مرشحين تدافعوا إلى المنافسة على كرسي قرطاج دون أن يكون لهم رصيد نضالي ولون سياسي واضح، بل عدد منهم اكتشفه الناخب التونسي بعد الإعلان عن أسماء المترشحين.
وأمّا الفئة اللافتة والمفاجئة فهم رجال المال والأعمال؛ حيث يخطب ودّ الرئاسة في تونس رجالٌ لهم من المال ما يجعلهم يحلمون بقصر قرطاج على أساس أن نجاحهم في إدارة أعمالهم ومشاريعهم قد يكون معيناً لهم على الخروج بتونس من الأزمة الاقتصادية خاصة.
كما نجد طيفاً من المترشحين يمثلون قطاع الإعلام كأن يكون مالكاً لقناة تلفزية أو قامة إعلامية يعتد بها في عالم الصحافة، ومنهم من جمع بين مهنة الصحافة والتاريخ السياسي المتلوّن على غرار الهاشمي الحامدي الذي مثلت قائمات حزبه في الانتخابات التشريعية 2011 مفاجأةً سرعان ما تبخّرت في تشريعية 2014، لكن خطاب الحامدي الشعبوي ووعوده الانتخابية المغرية طيلة اليوم والليلة على قناته التلفزية الخاصة قد تجعله منافساً لا يُستهان به.
طيف آخر من المترشحين لافت للانتباه، بل مثلوا مفاجأة ونعني وزراء النظام السابق الذين أثبت القضاء براءة أياديهم من دماء الشهداء وضحايا الثورة، والذين لم تثبت إدانتهم بتهم الفساد خلال عقود من الحكم مع الرئيس المخلوع، ولا بالمسئولية السياسية عمّا حدث لتونس طيلة ربع قرن من الاستبداد، نعم هؤلاء اليوم يسعون وراء كرسي قرطاج ولسان حالهم يقول: هل كنا نحلم بهذا في زمن المخلوع؟ ما أجملها من ثورة؟ هؤلاء يتوجّس منهم التونسيون خيفةً أن يعودوا بالبلاد إلى مربع الاستبداد، لكن من سمح لهم بدخول الحياة السياسية من جديد يعوّلون على التونسيين أن يقصوهم من خلال صناديق الاقتراع بعد أن طردتهم الثورة منذ ثلاث سنوات.
ومن المترشحين من يمثلون أحزاباً لها ثقل تاريخي في النضال ضد الاستبداد، فضلاً عن كونهم قامات سياسية بارزة، ولعلّ شخصيات مثل حمة الهمامي مرشح الجبهة الشعبية، ومحمد نجيب الشابي مرشح الحزب الجمهوري، ومصطفى بن جعفر مرشح حزب التكتل من أجل العمل والحريات، يمكن أن يكون كل منهم لاعباً مؤثراً في نتائج الانتخابات الرئاسية بما ستحصده من أصوات ستجبر التونسيين على الاحتكام إلى دورة رئاسية ثانية بين المحرزَيْن على أكبر عدد من الأصوات.
دورة رئاسية ثانية تكاد تجمع أغلب مؤسسات سبر الآراء أنها ستحسم بين الرئيس الحالي محمد المنصف المرزوقي ورئيس حركة نداء تونس الفائز بأغلبية غير مريحة في التشريعية والسياسي المخضرم الباجي قائد السبسي؛ حيث ظهر جلياً من خلال الحملة الانتخابية اصطفاف كبير وراء شخصية الرئيس المرزوقي بما هو مناضل سياسي من العيار الثقيل خلال العقود الماضية، خصوصاً أنه لايزال متمسكاً بأهداف الثورة التي خرج من أجلها الشباب، ويتوقّع أن يجد مساندة كبيرة من كل التونسيين بما فيهم قواعد حركة النهضة التي لم تزكّ أي مرشح وتركت الأمر لقواعدها في الانتخابات الرئاسية.
وأمّا الباجي قايد السبسي فلا يستبعد أحدٌ فوزه بالانتخابات القادمة خصوصاً بعد نجاح حزبه في نيل أكبر عدد من مقاعد البرلمان، ما يجعله يدخل الانتخابات في أريحية، خصوصاً أنه أكّد بعد ظهوره الأخير بين أنصار حزبه أنه، وعلى عكس ما يقول خصومه، بصحة جيدة رغم كونه على أبواب التسعين من العمر. ومع ترجيح البعض كفّة السبسي في الرئاسية عاد الحديث عن التغوّل وعودة الاستبداد ورفض هيمنة حزب واحد على مؤسّسات الدولة، ما من شأنه أن يهدّد مسار الانتقال الديمقراطي في تونس.
إنّ هذا التنافس، إن لم نقل التدافع، نحو قصر قرطاج، يتزامن مع تهديدات الإرهاب المتوالية ومع وضع اقتصادي متردٍّ، تدافع يعكس التشتت والحيرة التي تعاني منها الساحة السياسية في تونس خصوصاً أنّ برامج العديد من المترشحين متشابهة. ولعلّ عدم اصطفاف القوى السياسية التي تمثل خط الثورة بوضوح وراء مرشّح واحد قد يعود على مشروعها بالوبال، وقد تتكبد هزائم لن تنهض منها بسهولة، خصوصاً أن الاستحقاقات الانتخابية لاتزال متواصلةً، إذ تنتظر تونس مواعيد انتخابية قريبة تتعلق بالمجالس البلدية والمحلية.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 4455 - الإثنين 17 نوفمبر 2014م الموافق 24 محرم 1436هـ
دروس جديدة تقدمها تونس
وتكتسب هاتان المناسبتان بعداً تأسيسياً على أكثر من صعيد؛ إذْ هي تنتقل بالبلاد من وضع المؤسسات الكفيلة بحياة سياسية ديمقراطية إلى إرساء عادات سياسية جديدة على غرار نشر ثقافة تقبل الهزيمة وتهنئة المنتصرين، والتمرّس على قواعد الممارسة الديمقراطية وآليات الانتخاب النزيهة والشفافة من خلال بعث هيئة مستقلة تشرف على الانتخابات بمعزل عن تدخلات السلطة التنفيذية.
الرئاسيّة في تونس... بين الطموح المشروع والاستقطاب الثنائيّ
نرجو لتونس العزيزة مزيدا من التالق
نرجو التوفيق لتونس الخضراء
كل التوفيق في هذه التجربة الجديدة، ولكن حذاري من التدخلات الأجنبية
كلام سليم يا أستاذ سليم
ولئن فسّر البعض ارتفاع عدد المترشحين بأنه ظاهرة صحية طبيعيّة بعد عقود من الحرمان، فقد عزاه البعض الآخر إلى التشتت الذي تعرفه الأحزاب التونسية وتهافت عدد من السياسيين وغير السياسيين على الوصول إلى منصب رئيس الجمهورية.
شكرا
صورة موجزة وواضحة وموضوعية عن الرئاسية التونسية
بالتوفيق لكم