من توافرت له أدوات وإمكانات الكتابة؛ أو تحديد الموقف ويصمت؛ أو يؤجّل نظره وموقفه وانحيازه إلى قضايا الإنسان من حوله، لديه مشكلةٌ... ومشكلةٌ كبيرةٌ جداً.
لديه مشكلة أنه في حال اطمئنان طالما أنه خارج دائرة المسِّ به، أو تعرّضه إلى إشكالات من تلك النوعية. نوعية المصادرة والقمع والاستبداد؛ تلك التي باتت الملح اليومي لشريحة كبيرة من البشر، تصادفهم في تفاصيل كثيرة من حياتهم؛ بدءاً من البيت، وليس انتهاءً بمراكز العزْل والاستجواب.
ليس شرْطاً أن تكون مُهمَّشاً كي تكتب عن المهمّشين. ليس شرطاً أن تكون مظلوماً كي تكتب عن المظلومين. ليس شرطاً أن تتعرَّض للتمييز كي تكتب عن قبْح التمييز. وليس شرطاً أن تكون ضحية فساد على اختلاف أشكاله ومسمّياته كي تكتب عن المُفسدين. وليس شرطاً أن تكون موضوع انتهاك كي تكتب عن الانتهاك والذين يمارسونه، والذين يُمارس عليهم.
ليس شرطاً أن تكون سجين رأي تعرّض لكل أشكال التنكيل كي تكتشف أن بعض الأوطان ما هي إلا عيِّنة من الجحيم. وليس شرطاً أن تكون بذيئاً كي تكتشف الجرح الغائر الذي تتركه البذاءة في نفوس البشر. وأعني البشر هنا لا أشباههم!
انتظار كل ذلك كي يحدث، لتنبّه إلى الخطر، وتشير إلى عدم الاستقامة في المحيط الذي تعيش وتحيا فيه، يشكّل اليوم واحداً من نماذج الإسناد - عن وعي أو غير وعي - لكل ما ذُكر أعلاه؛ أو ذلك الذي لم تحط به هذه الكتابة.
انتظار أن تكون جزءاً من الممارسة كي تسجّل موقفاً، أو تبدي رأياً، لا ينفصل كثيراً عن التواطؤ مع ما يحدث، وتريد المنظومة تلك ضمن توجُّهاتها أن توجد صفاً؛ أو صفوفاً يتم تحييدها؛ ودفعها - بوسائل شتى - إلى العزل أو اعتزال الظواهر والممارسات والحراك الذي لا يعرف التوقف في مجتمعات إذا نجت من الإرهاب التقليدي، الذي يشهده العالم ويحاربه، لن تنْجو من هيمنته على الفضاء العام تحت عنوان «الأمن» أحياناً، و»حماية المكتسبات» واستهداف «طوابير مُتخيَّلة» أحياناً أخرى، في ظل فوضى التعاطي والممارسة، وغياب معنى جامع لمفهوم الدولة ودورها الحقيقي.
ذلك الانعزال أو الاعتزال من قِبَل النُخب - سمِّه ما شئت - بل هو الصمت عن كل ذلك - في ظل المعاينة عن قرب أو بُعْد، يتيح للممارسات تلك فضاءً إضافياً تتحرك فيه وتتمدّد، ولسنا بعيدين عمَّا شهده العالم العربي منذ العام 2011 حتى وقتنا الراهن، من تواطؤ النُخب الفاضح، في صورةٍ أو أخرى؛ بل والدخول تحت مظلة «نظام الممارسات القمعية» طوال عقود، وحتى ما قبل اتضاح الانهيار الذي حدث، كانت الحسابات تذهب في اتجاه، أن الخسارات القادمة ستكون كارثية بالنسبة لها (النخب)؛ فعند النظر إلى الحسابات الضيّقة لم تخسر شيئاً باختيارها الصمت، وكانت في قلب المنافع وتدفقها يوم أن اختارت أن تعطي ظهرها للجماهير، مولِّيةً وجهها شطر الذين يسومون تلك الجماهير سوء العذاب!
كلما توارى وانخفض صوت النُخب، في ظل الممارسات الاستبدادية، كلما وجدت الممارسات تلك أفقها وفضاءها الذي تظنه مهيّئاً أكثر من أيّ وقت مضى بتلك المباركة غير المباشرة، وذلك الاصطفاف الذي تحظى به من قبل تلك النُخَب، وإن كان اصطفافاً يتم فهمه وتبيُّنه بالصمت على ما يحدث!
ماذا عن الذين توافرت لهم أدوات وإمكانات الكتابة؛ أو تحديد موقف أخلاقي مما يحدث، ولا يفعلون. ولا يكتفون بالصمت عن قضايا الإنسان من حولهم؛ بل يعمدون إلى أن يكونوا جزءاً وأداةً من أدوات القمع والتنكيل التي تُمارِس قهرها واستبدادها اليومي على الإنسان، وتصادر كل خياراته، وتدخله ضمن حزمة من أملاكها؟
ماذا عن أولئك الذين لا يكفّون عن التحريض وتزيين أداء الاستبداد ذاك، والحضّ على تنويعه وتصعيده والأخذ به إلى مزيدٍ من فرض الأمر الواقع بالقوة والبطش؟
في أية خانة يمكن أن يتم وضع أولئك؟ هل هم النخب ممن نعرف الدور المتوقع منهم؛ أولئك الذين لا ينتظرون الكوارث كي يقفوا في مواجهتها؛ بل ينبّهون إلى بداياتها وما يدلّ عليها؟ فيما اليوم نرى الغالبية منهم في ما يشبه المصاهرة مع الذين يصنعون الكارثة ويراكمونها.
نُخَب الأدوار المضادّة، أولئك الذين يطمئنون على مواقعهم في الاصطفاف الشاذ، على حساب طمأنينة الأوطان ببشرها، إنما يطمئنون إلى السراب في متاهة سعوا إليها، ولن يكون الخروج منها بالسهولة التي يتوهّمون.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4454 - الأحد 16 نوفمبر 2014م الموافق 23 محرم 1436هـ
المتمردة نعم
بعض النُخب إما ان ينعزلون أو يحشرون نفسهم مع الخيل يا شقرا دون ايمان بقضايا المظلومين .وقلة منهم جداً من هو الصادق النزيه.سلمت ايادي الجمري.