العدد 4452 - الجمعة 14 نوفمبر 2014م الموافق 21 محرم 1436هـ

«تاريخ مختصر للموت» لسبيلمان: إدراكنا له يؤطِّر ثقافتنا

هيغل: القبور هي أول أشكال الهندسة المعمارية

في الكتابة عن الموت؛ ليس باعتباره نهاية مطاف، يسعى وليام سبيلمان في «تاريخ مختصر للموت» إلى الاقتراب من الموضوعة تلك، ليجلِّيها معنى وإدراكاً... حفْراً وتنقيباً. هو نفسه الذي صاغ الرؤية تلك في كتابه بالقول «إن إدراكنا لقضية الموت والموتى يؤطر ثقافتنا». اللحظات الأولى الموغلة في التاريخ، يوم أدرك الإنسان ذلك المعنى: معنى الموت، ومرة ثانية، ليس باعتباره رحيلاً وانتهاء علاقة مع البشر من حوله والأشياء والمكان، والأرض في نهاية المطاف، يتوقف طويلاً عند المعنى الأعم والأشمل، عند العلاقة مع الموت وما بعده.

وبقدر ما يتناول سبيلمان الموت كظاهرة وفي الحد الطبيعي، لا تخلو من إشكالات أيضاً، لا يغمض عينه ولا يهمل العنف الذي يكتنف تلك الظاهرة في صورة من الصور. يتتبّع ضمن مسارات تناوله المتشعبة... السهلة... المعقدة أحياناً، ما ينطوي عليه الموت من عنف. يضيء في تناوله أيضاً جوانب بعضها يلتقي وبعضها يتقاطع، الجوانب النفسية والاجتماعية والفلسفية والدينية والروحانية وحتى الإلحادية للموت؛ في انتخاب يكاد يشبه المسْح في نواحٍ متعددة من العالم وضمن نماذج، تمتد من العصر الحجري القديم إلى عصر ما بعد الحداثة.

القبور أول أشكال الهندسة المعمارية

نتوقف في كتاب سبيلمان، في معاينتنا بعض البشر وهم يتعاملون مع الأحياء باعتبارهم جِيَفاً، عند ملاحظته أن الإنسان الأول في مُفْتَتح التاريخ الإنساني لم يتعامل أبداً مع الإنسان الميِّت كونه جيفة. بنى ذلك الميت علاقات وأسّس قيماً بغضِّ النظر عن بدائيتها، وسعى إلى تبديد وحشة هذه الأرض يوم أن كانت خالية ومقفرة، وحلَّق بروحه حياً، وستظل تلك الروح محلقة وهي في عالمها الآخر.

يحتوي السرد كمّاً من المعلومات تتعلق بالمقابر، وطرق وأساليب المواراة أو الدفن، وأيضاً أساليب مواجهة الإنسان للموت، وتصدّيه للأمراض والأوبئة.

تحضر ملاحظة الفيلسوف الإسباني ميجويل دي أونامونو تلك التي تشير إلى أن الإنسان استخدم الحجارة في بناء المقابر قبل أن يستخدمها في بناء المنازل. هيغل هو الآخر له حضوره في تناول سبيلمان للتاريخ المختصر للموت، في صياغة بدتْ تكهُّناً «القبور هي أول شكل من أشكال الهندسة المعمارية».

توماس لاكيير، استعرض فصولاً مهمة من الكتاب، ضمن باب المراجعات في صحيفة «الغارديان» البريطانية، في عددها الصادر بتاريخ 24 أبريل/ نيسان 2014، نقدِّم جانباً من ذلك الاستعراض، وفيه بعض التصرف يتعلق بالتعريفات والإحالات:

هذا هو تاريخ موجز لموضوع كبير جداً يمتد لفترة طويلة وعميقة جداً من الزمن: الموت... طبيعته، وكذلك العنف. الموت من جميع جوانبه الفسيولوجية والنفسية والفلسفية والاجتماعية، والدينية، الشركية، التوحيدية، والإلحاد، كل ذلك موجود في كل مكان وفي الأوقات جميعها، بدءاً من الكهوف في العصر الحجري القديم إلى المستشفيات الحديثة، من شمال أوروبا إلى جنوب الصحراء الكبرى بإفريقيا، منذ ما قبل كولومبوس بأميركا الشمالية إلى الصين القديمة.

يبدأ وليام سبيلمان من لحظة بدء البشر أو أقاربهم المجاورين لهم أولاً رعاية موتاهم. ليس هناك من هو على يقين ليقول أو يحدد متى كان ذلك. يقول سبيلمان إنه في مكان واحد؛ ليس قبل موعد لا يتخطى الـ130 ألف سنة، وفي قول آخر، إنه في العصر الحجري القديم (10,000 - 90,000) قبل الميلاد، وفي بعد آخر، إن أول دليل حقيقي لدينا يأتي من المواقع الأثرية في التشيك ومن جميع أنحاء روسيا منذ ما يقرب من 28 ألف سنة قبل الميلاد، حيث كان الحرص واضحاً في التصرف مع الأجساد والأمتعة المرافقة لهم في القبر.

لفُّ الأجساد بالقصب

بحلول الوقت الذي نصل فيه إلى قرية زراعية كبيرة في (كتلهووك) في وسط تركيا في نحو الألفية الثامنة قبل الميلاد. (تقع كتلهووك في منطقة قونية، وهي إحدى أقدم المستوطنات في الأناضول. أظهرت نتائج الحفريات في كتلهووك وكاراهوك وشكوركنت وكوتشوتكوي، أن المنطقة مأهولة منذ العصر الحجري الحديث، أواخر العصر الحجري في الألف السابع قبل الميلاد). ويبدو سبيلمان أكثر ثباتاً على الأرض: مكث سكان تلك القرية بالقرب من موتاهم، وقاموا بدفنهم، بعد أن لفوا أجسادهم بالقصب، ضمن مساحات هي جزء من الحيّز المعيشي الذي كانوا يحيون ويتحركون فيه.

في العديد من الطرق غير السارة للموت التي تمتلك هي الأخرى تاريخاً طويلاً: الحرب والمرض والتضحية البشرية وأكل لحوم البشر، كل ذلك له شوطه وتاريخه الطويل، على رغم أن ذلك التاريخ ليس موحّدَاً في بعض الأحيان كما يعتقد سبيلمان. الأمراض المعدية ربما أصبحت أكثر فتكاً عندما بدأ الناس في الاستقرار. وبدأت الحروب المنظمة فعلاً، عندما كانت هنالك أماكن للدفاع. ولكن إلى الآن، لاتزال القصة قديمة جداً.

وعلى رغم كل جهوده للعثور على «أنماط أولية» في بحر كبير ومتلاطم من الحقائق، يظهر نمط واحد فقط: نمط العصور القديمة والسائدة عالمياً، تلك التي نشهد ارتباطها مع الموتى. «تم استخدام الحجر للقبور قبل استخدامه في بناء المنازل»، بحسب صياغة الفيلسوف الإسباني ميغيل دي أُنامونو. (ميجل ديه أونامونو، فيلسوف وشاعر وروائي ومؤلف تمثيليات إسباني باسكي، نسبة إلى إقليم الباسك. وُلد في بلباو في 29 سبتمبر/ أيلول 1864. عيِّن أستاذاً للغة اليونانية بجامعة سلامنكا العام 1891م، ثم رئيساً للجامعة في العام 1900م. بالإضافة إلى كتبه الكثيرة، كتب أونامونو ما يزيد على 3,000 مقالة قصيرة. اكتسب عداء أربع حكومات متعاقبة بسبب نقده السياسي الجريء. وتوفي في شلمنقة في 31 ديسمبر/ كانون الأول 1936).

قبل قرنين من الزمان - إلا قليلاً - تكهَّن الفيلسوف هيغل (جورج فيلهلم فريدريش هيغل. ولد 27 أغسطس/ آب 1770 - 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 1831. فيلسوف ألماني ولد في شتوتغارت، فورتيمبيرغ، في المنطقة الجنوبية الغربية من ألمانيا. يعتبر هيغل أحد أهم الفلاسفة الألمان، وأهم مؤسّسي حركة الفلسفة المثالية الألمانية في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي)، بأن المقابر كانت أول شكل من أشكال الهندسة المعمارية. وهنالك المزيد من الأدلة أكثر من أي وقت مضى، على أن البشر أو البشر البدائيين تعاملوا مع موتاهم ليس باعتبارهم جيفاً.

خلود الروح من عدمها

سبيلمان يحصر تركيزه في الفصل الآتي: الأفكار في الغرب، من الإغريق وحتى الوقت الحاضر، فيما بعد الموت (الآخرة) ومعناه. يبدأ مع أفلاطون، في قوله بخلود الروح الإنسانية، واعتباره روح الإنسان سجينة الجسد، وأنها لا تموت، بل تجد تحررها بموت الجسد، واعتقاده بأنها تحلِّق بعد موته. ثم يتم تعميمها وانتقالاتها إلى هيئات جديدة، وفي ذلك نسخة مبكّرة لمذهب التقمّص، أو سفر الروح، وما يشبه عيشها وإلى الأبد في عالم نقي من الأشكال أو الهيئات.

ظلت المسألة معلّقة فيما إذا كانت مثل تلك الروح، تتطهر من الذكريات، كما كان يعتقد أفلاطون. أرسطو حلّ هذه المشكلة بالقول، إنه لا توجد أشكال بلا جسد، بل إن كل واحد منا هو مركّب من شكل وجوهر. توما الأكويني ترجم أفكاره عن الخلود من العقيدة المسيحية التي يتطابق معها في القول، بأن الحياة البشرية المخلوقة ستبقى حية خالدة بعد فناء الجسد.

ومع ذلك، مثل هذا الرأي أثار مشكلات جديدة. هنالك مكتبات لاهوتية تتجادل بشأن - تحديداً - ما هو شكل الجسد الذي سيبعث. كيف سيكون زمنه؟ هل سيستعيد أطرافه التي فقدها؟ ماذا سيحدث لجثة المسيحي التي قد تم تفكيكها؟ كل هذه الأسئلة هي محببة جداً لسبيلمان، وبدلاً من نقله القراء بعيداً إلى الماديين: أبيقور الذي يعتقد أن الموت يعني الموت، من دون الحاجة إلى تأويل؛ وإلى ورثة الماديين من المحدثين مثل ستيفن جاي غولد وريتشارد دوكينز؛ يخلص سبيلمان إلى أن بعض نسخ من «مبادئ أثينا القديمة يُحتَفَظ بها مذكِّرة» اليوم، بمعنى، أن معظم الناس يشعرون بأن هناك مغزى للآخرة.

مع الفصل الثالث نعود إلى زاوية واسعة: الدين والموت ابتداء بما يسمى «العصر المحوري»، (800 قبل الميلاد) عندما وضع كل من بوذا، والطاوية (مجموعة مبادئ، تنقسم إلى فلسفة وعقيدة دينية، مشتقة من المعتقدات الصينية راسخة القدم. من بين كل المدارس العقلية التي عرفتها بلاد الصين، تعتبر الطاوية الثانية من حيث تأثيرها على المجتمع الصيني بعد الكونفوشيوسية)، كونفوشيوس، أول الفلاسفة اليونانيين، زرادشت، حكماء الهندوسية القديمة وأنبياء العهد القديم، وجهات نظرهم وأفكارهم حول الهدف من الحياة، ومعنى الموت ووضع الآخرة، وانتهاء مع طرق التفكير المعاصرة الحالية في التعاطي مع هذه الأسئلة الكبرى. حالة جان دومينيك، على سبيل المثال، حبيس جسده والقادر على التواصل فقط من خلال وميض عينيه تقترح علينا: كيف يمكننا نحن الأحياء، خلق العالم الحسي من الذاكرة مثلما تفعل روح بلا جسد بعد الموت.

الأنا والنرفانا

البوذية فهمت الموت من خلال إنكارها الـ «أنا» بحيث، إنه من خلال الحياة المتعاقبة، يفقد محب الحكمة كل السعي الفردي، والدخول في حالة من التوحد مع الكون: (النرفانا) أو السكينة. سيفقد الموت لسعته. الديانة الصينية التقليدية شددت على العلاقة المستمرة بين الأحياء والأموات بحيث يتم التشاور مع الأسلاف قبل اتخاذ القرارات العائلية الرئيسية، والتي تمثل فيها الأشباح الخطيرة حضور أرواح أولئك الذين تم تجاهلهم من قبل ذراريهم.

سبيلمان يحكي قصة شائعة ومعروفة في المسيحية حيث الموت افتداء لله في شكل الإنسان، يؤكد القيامة المادية والحياة الأبدية المباركة للموتى، الذين يشتركون في منحى وجهة النظر هذه، والخلود الرهيب الذي ينتظر أولئك الذين ماتوا وهم على خطيئة.

ينتهي الكتاب مع دراسة مطوّلة لتاريخ العديد من الطرق العادية وغير العادية للموت من عمر العصر الحجري القديم وحتى الوقت الحاضر. أخيراً يستعرض سبيلمان قائمة الاستجابات الاجتماعية والثقافية للموت في يومنا هذا؛ بما في ذلك الغموض، والأعمال التجارية في مجال تجهيز الموتى والجنازات، والقبول والإقبال المتزايد على الانتحار، وما يرتبط بكل ذلك.

العدد 4452 - الجمعة 14 نوفمبر 2014م الموافق 21 محرم 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً