العدد 4452 - الجمعة 14 نوفمبر 2014م الموافق 21 محرم 1436هـ

فاران وجاراتها: بناء نموذج الاستيطان

في الحلقات السابقة ناقشنا بصورة مفصلة نموذج الاستيطان القديم في أحد أهم المناطق في جزيرة البحرين الكبرى، والتي أطلقنا عليه اسم «جدحفص وجاراتها». وسبق أن ذكرنا أن هذه المنطقة تمثل أقدم مواطن الاستيطان على جزيرة أوال وتضم واحداً من أهم موانئها التاريخية الذي يمثله ساحل مني ومروزان التاريخي. إلا أن هذه المنطقة لم تكن الوحيدة التي ظهرت في الحقبة الإسلامية المبكرة (630م - 1055م)، فقد ظهرت معها أربع مناطق أخرى، وذلك بحسب الآثار التي تم اكتشافها في تلك المناطق (انظر الخارطة المرفقة). ولكل مجموعة ساحل خاص بها، وهذه المجموعات تتمركز حول مناطق أساسية لها شهرة تاريخية، ثلاث منها بالقرب من سواحل مهمة ربما كانت موانئ تاريخية، وهذه المناطق هي: باربار وبالقرب منها ساحل مهم يمتد من جدالحاج حتى الدراز، وسار، وساحلها هو ساحل فاران التاريخية، وكرزكان وهي بالقرب من ساحل مهم يمتد من كرزكان حتى داركليب. بالإضافة إلى عالي التي عليها أن تعتمد إما على سار أو كرزكان للحصول على منافذ بحرية.

جميع تلك المناطق كانت مراكز انتشرت منها بقية القرى بحسب نموذج معين، وحتى لا نكرر هذا النموذج في كل مرة نتناول فيه إحدى تلك المجموعات، سنوضح هذا النموذج هنا بصورة عامة بحسب الحقب، ونترك خصوصيات كل منطقة نتناولها بالتفصيل.

حقبة الدولة الأموية (662م - 750م)

اتسمت هذه الحقبة بظهور العديد من حركات التمرد التي ناقشناها بالتفصيل في فصول سابقة. ويوجد في البحرين مناطق محدودة للاستيطان في هذه الحقبة، فيوجد موقع في جزيرة المحرق، وبعض المواقع المتجاورة في جزيرة البحرين والتي عثر فيها على آثار تعود لتلك الحقبة وهي: جدحفص، وجبلة حبشي وبالقرب من مسجد الخميس، وفي موقع سوق الخميس، وفي أقصى جنوب البرهامة (البجوية قديماً) وشمال مقبرة أبي عنبرة. ومن المرجح أن هذه المناطق كانت تستفيد من ضاحية ساحلية مهمة، هي ساحل مني ومروزان الذي ربما كان أهم موانئ تلك الحقبة. وفيما يخص ساحل البلاد القديم، فللأسف فإن نتائج البعثة البريطانية في عدد من مناطق البلاد القديم وما حولها تشير إلى أن الآثار القديمة هي باتجاه الشمال، أي خارج حدود البلاد القديم. أما باتجاه الجنوب (أي باتجاه ساحل البلاد) فالآثار التي عُثر عليها تصنف ضمن الآثار الإسلامية متأخرة (Insoll 2005, pp. 19 - 51).

حقبة الدولة العباسية المبكرة (750م - 900م)

أفضل الحقب العباسية التي ازدهرت فيها البحرين هي الحقبة التي تلت انتهاء جميع حركات التمرد في البحرين، والتوصل لاتفاق باستقلال البحرين بصورة جزئية، وهي الحقبة ما بين الأعوام 810م - 929م، وتشمل هذه الحقبة بروز مدينة سامراء كعاصمة للدولة العباسية (836م - 892م)؛ وهذا ما يفسر انتشار الفخار السامرائي في المواقع الأثرية الإسلامية المبكرة في البحرين. وقد ظهرت، في جزيرة البحرين الكبرى، مناطق استيطان جديدة، بالإضافة للمواقع السالفة الذكر التي بقيت مستمرة. هذه المواقع هي: باربار وفاران القديمة وسار وعالي وكرزكان. ويلاحظ أن ثلاث من هذه المناطق ربما كانت تمثل ثلاثة موانئ جديدة استفادت منها البحرين في تلك الحقبة، وهي باربار وفاران وكرزكان. وقد ساهمت هذه الموانئ في زيادة الحركة التجارية في البحرين؛ حيث إن الآثار التي عثر عليها تمثل مدى ثراء بعض هذه المناطق، كالمدينة المسورة في عالي والمدينة الأخرى في باربار وهو ما سنناقشه بالتفصيل في فصول لاحقة.

حقبة سيطرة القرامطة (929م - 1064م)

تقدر هذه الحقبة بقرابة 140 عاماً، وتمتد بين الأعوام 929م - 1064م. هذا، ويختلف تاريخ بدء الحقبة القرمطية في أوال عن تاريخ بدايتها في البحرين الكبرى؛ حيث إن القرامطة سيطروا على البحرين الكبرى في قرابة العام 900م، وتمّ ضم جزيرة أوال إلى حكمهم في قرابة العام 929م (الجنبي 2012، ج4، ص 2257 - 2258). والمرجح أن القيادة القرمطية تمركزت في أقدم مواطن الاستيطان في البحرين، أي في محيط البلاد القديم وجدحفص. وتشير نتائج التنقيبات الآثارية في موقع سوق الخميس إلى وجود هجرة جماعية من هذه المناطق في حقبة سيطرة القرامطة (Carter 2005)، وبالتزامن مع تاريخ هذه الهجرة، يلاحظ ظهور مواقع استيطان جديدة بعيدة عن مركز القرامطة لكنها قريبة من مواقع الاستيطان الأخرى. هذه المواقع الجديدة تقع في الدراز، وفي سار وفي صدد.

بمعنى آخر، أنه في حقبة سيطرة القرامطة تقلصت أهمية مركز الاستيطان القديم في محيط البلاد القديم وجدحفص، وبدأت مواقع الاستيطان الأخرى تزداد أهمية وتتوسع، ربما لبعدها عن الإدارة القرمطية.

حقبة الدولة العيونية (1077 - 1239م)

بعد القضاء على القرامطة من كامل بلاد البحرين وسيطرة الدولة العيونية على السلطة السياسية (العام 1077 م)، بدأت حقبة جديدة في جزيرة أوال، حيث الاستقرار السياسي والحرية المذهبية والانفتاح التجاري وإعادة بناء البنية التحتية للجزيرة. وقد أسس العيونيون على جزيرة أوال، في القرن الثاني عشر، مدينة ومركز تجاري في منطقة قلعة البحرين، وبدأت بإعادة إعمار جزيرة أوال بصورة عامة، فبدأت بصيانة العيون الطبيعية في البحرين وقنوات الري التحت أرضية أي نظام الثقب والأفلاج؛ حيث تؤكد الدراسات الآثارية على أن نظام الثقب والأفلاج تم إعادة العمل به في هذه الحقبة، على رغم أنه لا يعرف بالتحديد متى تم بناؤها (Larsen 1983, pp. 87 - 88). وبحسب هذه المعطيات فإن العديد من القرى تم إعمارها أو إعادة إعمارها بدءاً من هذه الحقبة.

ظهور أكثر من 300 قرية

بعد انتهاء الحقبة العيونية، سيطرت عدد من الدويلات على السلطة السياسية في البحرين، وقد ورثت تلك الدويلات المدينة والمركز التجاري، وكذلك، النظام التجاري الذي أسسته الدولة العيونية. وتابعت هذه الدويلات في تطوير ذلك النظام التجاري ما أدى لمزيد من الازدهار. وقد ظهرت العديد من القرى التي انتشرت في البحرين من شمالها حتى أقصى جنوبها، بما في ذلك الجزر المحيطة، كالمحرق وسترة والنبيه صالح (Larsen 1983, figure 7 and appendix 2). ولا يعلم بالتحديد عدد القرى التي ظهرت، إلا أن أقل رواية ذكرها الجغرافيين المبكرين كانت رواية أبوالفداء (1274م - 1331م) حيث قدر عدد القرى بقرابة 300 قرية وذلك في كتابه (تقويم البلدان). ويقدر Larsen عدد سكان البحرين، في فترة حياة أبوالفداء، أنها تتراوح ما بين 19125 و45900 (متوسط 32500 تقريباً) (Larsen 1983, p.196).

من خلال هذه الأرقام، لا تبدو رواية أبوالفداء مستحيلة؛ فهناك عدد من الدراسات التي تخصصت في دراسة الديموغرافية في العصور الوسطى Medieval Demographics. غير أن هذه الدراسات لم تجرَ على منطقة الخليج العربي، لكنها أجريت في بيئات زراعية أخرى. تتضمن هذه الدراسات مقارنات بحجم سكان القرى في تلك الحقبة في مناطق مختلفة، ويتضح من المقارنة أنها كانت قرى صغيرة يتراوح سكانها ما بين 20 - 1000 فرد، وفي الغالب ما بين 50 - 300 فرد. أما المدينة في تلك الحقبة فيتراوح سكانها ما بين 1000 - 8000 فرد (S. J. Ross 1993 - 2014).

لو افترضنا أن هذه المقارنات تتفق مع قرى البحرين في العصور الوسطى، فيمكننا بذلك افتراض وجود مدينة مركزية أو ربما مدينتين يتراوح سكان كل مدينة بين 1000 - 2000 فرد، مع وجود 300 قرية (أو أكثر) يتراوح عدد سكانها ما بين 50 - 200 فرد. وهذا يتفق مع أعداد سكان البحرين في تلك الحقبة والتي استنتجها Larsen. بالطبع، هذه مجرد نظرية تحتاج إلى تطوير بحسب إعادة تحليل الدراسات المتخصصة، وهو ما سنفرد له حلقات منفردة.

هذا ملخص نموذج الاستيطان لقرى البحرين التي بدأت تتكون في الحقبة الإسلامية المبكرة متمثلة في خمسة مراكز أساسية، تناولنا منها مركز واحد هو جدحفص وجاراتها وفي الحلقات القادمة سنتناول تفصيل مركز آخر هو «فاران وجاراتها».

العدد 4452 - الجمعة 14 نوفمبر 2014م الموافق 21 محرم 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً