لقد حققت سورية في حرب 1976 تقدماً كبيراً على صعيد العمليات العسكرية، لكنها فقدت جزءاً كبيراً من التعاطف بين الدول والشعوب العربية المناصرة للقضية للفلسطينية، والموقف السعودي والكويتي والخليجي سيكون متحفظاً على محاولة تفرّد سورية في لبنان، كما أن الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية هي الأُخرى غضبت جرّاء التدخل السوري ضد أنصارها في الحركة الوطنية اللبنانية والفلسطينية.
حركة «أمل» والقاعدة الشيعية في الجنوب
في أوائل سنة 1977 ساد بعض التوتر بين المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية من جهة، وحركة “أمل” (أفواج المقاومة اللبنانية) من جهة أُخرى، ولا سيما بسبب وقوف الحركة، بقيادة السيد موسى الصدر، على الحياد خلال التدخل السوري في لبنان. لقد تأسست “أمل” بدعم كبير من حركة “فتح” في سنة 1975، بل إن أحد أوائل شهداء السرية الطلابية التابعة لحركة “فتح”، مجاهد الضامن، وهو الشاب المتميز، استشهد بانفجار لغم وهو يدرّب عناصر “أمل” على القتال.
لكنّ حركة “أمل” تحوّلت إلى قوة للمسلمين الشيعة في ظل الحرب الطائفية في لبنان، وهذا سيكون على حساب القوى السياسية الأُخرى، وخصوصاً اليسارية الوطنية اللبنانية والفلسطينية، والتي ستبدأ بفقد عناصرها الشيعية لمصلحة حركة “أمل”. فمنطق “أمل” قال بضرورة أن تؤدي الطائفة الشيعية دورها مثل أية طائفة أُخرى في التوازنات اللبنانية، الأمر الذي زاد التوترات مع الأحزاب اللبنانية اليسارية التي استندت إلى الشيعة بشكل أساسي في حضورها السياسي والعسكري.
أمّا موقف “فتح” فكان أقل حدّة تجاه “أمل” بحكم العلاقة الخاصة بين الإمام الصدر وعرفات، ومع ذلك توترت العلاقة في سنة 1976، واستمر التوتر حتى يناير/ كانون الثاني 1977، عندما أنجزت حركة “أمل” مصالحة مقبولة مع جميع الأطراف اللبنانية والفلسطينية، وخصوصاً بعد المصالحة الفلسطينية - السورية، وأعلنت رغبتها في إرسال قواتها إلى جبهة الجنوب.
لقد أصبح الجنوب اللبناني منذ نهاية سنة 1976، قاعدة مكثفة للعمل الفدائي للفصائل الفلسطينية وحلفائها، كما أن معارك الجنوب توسعت جغرافياً، ولا سيما عندما نجحت إسرائيل في بناء شريط أمني بعمق عدة كيلومترات داخل الأراضي اللبنانية بحراسة الضابطين اللبنانيين سعد حداد، ثم أنطوان لحد، اللذين أسست إسرائيل لهما جيشاً يعمل لمصلحتها. وتبع ذلك سلسلة من الاشتباكات المباشرة وعمليات القصف المدفعي والصاروخي بين الشريط الحدودي والمناطق التي توجد فيها الفصائل الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، وبين هذه الأخيرة والأراضي الفلسطينية المحتلة.
في ظل هذا المناخ، كان اجتياح 1978، أو ما عُرف بعملية الليطاني، واحداً من أشرس المعارك التي استطاع عبرها الجيش الإسرائيلي الوصول إلى مشارف مدينة صور ومخيمات اللاجئين المحيطة بها، وقد خاضت المقاومة معارك كبرى في مدن مثل بنت جبيل ومارون الراس في مواجهة القوات الإسرائيلية المتقدمة. وفي تلك الحرب كان عرفات يدير غرفة العمليات ومعه قادته العسكريون. وانتهت الحرب بعد 8 أيام بوقفٍ لإطلاق النار والقرار الدولي 425، وإيفاد قوة دولية تشرف على المنطقة العازلة بين المقاتلين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي.
لقاء ياسر عرفات تحت النار
بعد اجتياح إسرائيل في سنة 1978 للجنوب اللبناني تغيرت الجبهات، وأصبحت جبهة الجنوب مفتوحًة أمام العمليات الإسرائيلية البريّة الخاصة، أو تلك التي تقوم بها من الجو. لكن من جهة أُخرى، بقيت جبهة واحدة صامدة هي جبهة منطقة النبطية التي تزينها قلعة الشقيف، أو قلعة صلاح الدين.
وفي إحدى الليالي نفّذ لواء غولاني هجوماً مباغتاً على القلعة والمناطق المحيطة بها، ودارت معركة رئيسية على تلك المحاور. فطلب مني قائد كتيبة الجرمق معين الطاهر التوجّه فوراً بقوة مقاتلة لتقدير الموقف، وتعزيز مواقع كتيبة بيت المقدس التابعة لحركة “فتح”، والتي وقع عليها الهجوم. وفي أثناء وجودي في قلعة الشقيف، وتسلّم المواقع من الكتيبة التي هوجمت، والتي دفعت ثمناً باهظاً من الشهداء والجرحى بعد ليلة من القتال الضاري ضد لواء غولاني، جاءني اتصال مفاجئ يطلب مني ضرورة الحضور فوراً إلى مركز القيادة وسط مدينة النبطية.
ذهبت إلى قيادة كتيبة بيت المقدس في النبطية، وإذا بياسر عرفات أمامي ومعه حراسه وقائد الجنوب الحاج إسماعيل، وقائد كتيبة بيت المقدس علاء. وكان هذا أول لقاء لي بالقائد العام لقوات العاصفة ورئيس منظمة التحرير منذ أن التقيته في الأمم المتحدة في 1974 أثناء دراستي في جامعة جورج تاون. سلّمت عليه من دون أن أعرف إن كان يتذكر لقاءنا الأول.
ألقى عرفات خلال اللقاء خطاباً لرفع المعنويات، وبدأ يرفع صوته كأن مناحم بيغن (رئيس الحكومة الإسرائيلية) معنا في الغرفة. وقال عرفات بنبرة خطابية عالية: «إحنا صامدين. وأنا بقول لبيغن وللي وراء بيغن (ارتفع هنا صوت عرفات أكثر) إحنا صامدين في القلعة وباقين ولن يؤثر فينا، لا الفانتوم والـ أف 16 ولا غيرو. وبقول لك (وهو يخاطبني مباشرة) القلعة مسئوليتك الآن، إنت مسئول عن هذا الموقع وهو أمانة في رقبتك، هذا الموقع اللي كان في يوم من الأيام قلعة صلاح الدين، هذا الموقع بعهدتك يا جهاد (الاسم الحركي لكاتب هذه السطور). وأنا بقول لبيغن إحنا أبناء شعب لا يتعب، إحنا الرقم الصعب (وارتفع صوته إلى أعلى درجة) يا بيغن جيب اللي عندك وجرّب كل اللي عندك، راح نواجه وراح ننتصر...”. وإذا بصوت الطائرات الإسرائيلية يغطي على صوت عرفات، وبطائرات بيغن تمرّ فوق رؤوسنا على بعد أمتار قليلة فوق المنازل. أيقنّا بأن الطائرات ستغير على الموقع، وأن بيغن أراد الآن تصفية عرفات بعدما عرف أنه في النبطية. بدأت الطائرات تقصف النبطية ومحيطها، ولم يعد هناك مجال للخروج من المبنى، وبدا لي أننا سنُقتل جميعاً. لم يكن أمامنا سوى الانتظار. تساءلت هل سأموت إلى جانب عرفات في هذه اللحظات؟
صمت عرفات فجأة، وتبادلنا النظرات بصمت، وقلت له بابتسامة: “إنها غارة”، وصرخ مسئول الأمن المرافق لعرفات: “لا أحد يتحرك الآن”. نظر عرفات إليّ نظرة في غاية الهدوء، ولم يقل شيئاً. لم يكن خائفاً، ففي عينيه نظرات تحدّ وهدوء غريب، بينما الغارات تضرب مواقع قريبة منا لمدة زادت عن خمس دقائق بدت كأنها أعوام، ثم صرخ رئيس أمنه الشخصي فجأةً: “تحرّكوا”، فتحرك عرفات بسرعة البرق إلى خارج البناية وإلى خارج النبطية، أمّا أنا وكل مَن في المبنى فخرجنا راكضين وذهني مشغول بالوصول إلى المواقع والتأكد من أن الشبان بخير.
حصار بيروت
ستحاصَر القيادة الفلسطينية في بيروت، وستقرر خوض المعركة بقيادة عرفات وأبو جهاد وسعد صايل (أبو الوليد) القائد العسكري المحترف للقوات الفلسطينية، وستكون هذه المعركة أطول حرب يشهدها الصراع العربي الإسرائيلي منذ حرب 1948، وستسجَّل للمقاتل الفلسطيني واللبناني والعربي المنضوي ضمن مشروع المقاومة بسالة وإرادة نادرتان.
ستنتهي تلك الحرب بانتقال آلاف المقاتلين الفلسطينيين من جميع المنظمات الفلسطينية من بيروت المحاصرة، بعد اتفاق رعته الولايات المتحدة، إلى دول عدة، وإلى مناطق البقاع اللبناني حيث الوجود السوري الكثيف، وحيث لم تصل القوات الإسرائيلية. لقد أصبح الانسحاب هو السبيل الوحيد لمنع تدمير ما بقي من بيروت التي عاشت حرباً يومية على مدى ثلاثة أشهر متتالية.
لكن بعد الانسحاب من بيروت أصبحت المسافة أبعد عن حدود فلسطين، وأصبحت تونس المقر وليست بيروت أو بنت جبيل. لقد بدأت كل المعادلات تتغيّر، فلم يعد هناك قاعدة آمنة للانطلاق.
لكن عرفات سيعود ثانية إلى لبنان في سنة 198، لكن هذه المرة إلى طرابلس في شمال لبنان لحماية ما تبقّى من قواته من التدخل السوري والانشقاق في “فتح”، وستدور معركة تستمر أشهراً في طرابلس بقيادة عرفات الذي عاد سراً من تونس عبر البحر إلى طرابلس، وستأتيهم الإمدادات، وسينجحون في حماية المقاومة الفلسطينية وأنفسهم في طرابلس من التصفية.
وسيكون أبو جهاد إلى جانب عرفات، وذلك بعد أن اغتيل الرجل الثالث في هرم القيادة العسكرية في منطقة البقاع العميد سعد صايل )أبو الوليد) قبل الاشتباكات بفترة قصيرة. وستنتهي معركة طرابلس بموافقة ياسر عرفات والمقاتلين على الخروج من طرابلس إلى تونس بواسطة سفينة عملاقة تحمل جميع المقاتلين وعائلاتهم. وبعد طرابلس سينتقل كل منهم إلى شتات جديد في أمكنة متعددة في العالم العربي.
ربما لهذا تحديداً قرر عرفات في أثناء انتقاله في السفينة أن يتوقف في مصر كي يقابل الرئيس حسني مبارك. وكانت هذه أول مرة يلتقي فيها الرئيس مبارك مذ وقّع السادات الذي اغتيل في سنة 1981 اتفاق “كامب ديفيد”. كانت هذه الزيارة لمصر إشارةً إلى محاولة عرفات البحث عن طريق جديدة بعد بيروت والبقاع وطرابلس وعشرات من معارك التصفية والإبادة.
في هذا التاريخ نرى كم من القوى تجمعت ضد إرادة حركة التحرر الفلسطيني والعربي. فالحركة التي قادها عرفات كانت تقاتل أحد أكثر الأعداء ذكاء وقدرة على التخطيط والتفكير الاستراتيجي، لكنها كانت تقاتل في ظل أوضاع صعبة في عالم عربي منقسم على نفسه وغارق في مشكلاته.
القيادة التي أمّنها عرفات للعمل الفلسطيني ستتبنى الانتفاضة الفلسطينية التي ستندلع في سنة 1987، لكن عرفات سيفقد ساعده الأيمن والشجاع أبو جهاد غيلةً على يد الموساد الإسرائيلي، في 16 أبريل/ نيسان2008 ، وعندما يغزو صدام حسين الأراضي الكويتية سيكون عرفات في أضعف موقف له، وموقفه في تلك المرحلة لن يكون خير تعبير عن حقيقته، إذ سيجد نفسه في موقف اللاموقف، مع حل عربي في زمن مختلف، الأمر الذي سيكشف ظهره وسيدفعه بعد حرب 1990 / 1991 إلى القبول بشيء لم يكن ليقبل به في ظروف سابقة: إنه “اتفاق أوسلو”.
كان قبوله الاتفاق مشروطاً بتحقيق تقدّم، وعندما لم يحدث التقدم أعطى الإشارة للانتفاضة الثانية التي انتهت بحصار الجيش الإسرائيلي له في مقر قيادته في رام الله في سنة 2002، واستشهاده في ظروف غامضة في سنة2004. لكن التاريخ سيسجل بين ثناياه أن عرفات كان القائد الذي عاد إلى الوطن، والذي نجح في انتزاع حق العودة له ولجميع المقاتلين والفدائيين في الشتات، كما سيسجل التاريخ أن هذه العودة أسست لشيء جديد، وأنه من دونها لم تضطر إسرائيل إلى الانسحاب من بعض المناطق، وخصوصاً من غزة.
كانت قيادة عرفات تجمع بين النظامية والعفوية؛ بين التخطيط وسرعة اتخاذ القرار. كان يقود منظمة كبيرة تراجعت قدراتها التنظيمية مع الزمن وخسرت خيرة قادتها مع الوقت، فلو ذكرنا عدد من قُتل من قادة “فتح” وكادرها القيادي والوسيط، لوجدنا أن هذه المؤسسة العريقة أُدميت وأصبحت مكشوفةً أمام عدو لم يترك طريقة إلاّ واستخدمها في محاولة ضربها: حروب ومجازر؛ معارك ومواجهات؛ احتلال وموت.
هذه هي مسيرة “فتح” وعرفات منذ بداية الثورة في سنة 1965، ولهذا تحول إلى رمز لزمن وقائد تاريخي يجسد فكر المقاومة في فلسطين بكل تنوعاتها، وصولاً إلى صمود غزة في حرب 2014. وعندما يتم الوصول في أحد الأيام إلى حق الفلسطينيين في تقرير المصير والعودة والحرية، سيكون عرفات حاضراً بصفته الأب الروحي للمقاومة في ظل أوضاع قاهرة وغير مواتية.
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 4452 - الجمعة 14 نوفمبر 2014م الموافق 21 محرم 1436هـ