كنت في العشرين عندما التقيت عرفات للمرة الأولى. انتظرت مجيء ديسمبر/ كانون الأول 1973 بفارغ الصبر كي أترك الجامعة في الولايات المتحدة في إجازة أمضيها في بيروت. وقد دُعيت إلى دورة تدريبية وتثقيفية في إحدى قواعد ومعسكرات «فتح» في سورية بحضور 200 من الطلبة والطالبات تقريباً.
وفي الليلة الختامية في المعسكر، فوجئنا برئيس منظمة التحرير ورئيس حركة «فتح» وقائد قوات العاصفة الجناح العسكري لـ «فتح»، ياسر عرفات، أمامنا. تجمّعنا كلنا في خيمة كبيرة تتسع لنا، وبدأ عرفات يتحدث بإسهاب، وكنت أقف في الصف الأول أمامه. تحدث عن انطلاقة «فتح» وبدايات الكفاح المسلح في سنة 1965، وعن القرارات الصعبة في بداية المسيرة، وعن حرب 1967 وكيف انطلقت «فتح» بعد هزيمة الجيوش العربية، معلنةً الكفاح المسلح ضد الإحتلال الإسرائيلي.
سرد لنا أحداث أعوام طوال من العمل الفدائي في الأردن، ثم العمل الفدائي في لبنان والمعارك في الجنوب اللبناني ضد إسرائيل، وخصوصاً مشاركة الفدائيين في جبهة الجنوب في حرب 1973. تحدث بإيجابية عن حرب 1973، ثم قال إن إسرائيل ستضطر إلى الإنسحاب من الأراضي المحتلة منذ سنة 1967، وإن أي قطعة أرض من فلسطين تنسحب إسرائيل منها يجب أن يقام عليها دولة فلسطينية.
ارتفعت الحرارة في الخيمة بين الطلبة واستمرت في الارتفاع عندما قال: “أنا على استعداد لإرسال وحدات من جيش التحرير الفلسطيني لتسلّم مهماتها بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من الضفة الغربية وغزة”. ثم أردف قائلاً: “أنا مستعد لإقامة دولة في أريحا، فكل قطعة أرض هي جزء من فلسطين ويجب تحمّل مسئوليتها”.
وقع الكلام علينا كالصاعقة. لقد حمل كل شاب وشابة في هذه الخيمة حلماً بالعودة إلى فلسطين المحررة، لكن عرفات بدأ يتحدث بواقعية تتناقض وذلك الحلم، كأنه يمهد لحلم أصغر يستوعب تغيّرات التاريخ ونتائج الهزائم، ولحل وسط لم يكن أي منا مستعداً لتقبله. لقد شعر أبو عمار من تمتمات الشبان ووجومهم ولغة أجسادهم بأنهم غير متقبلين لما يقول.
ثم قال: “هناك تسوية مقبلة نتيجة حرب 1973، ولا يمكن أن تمر هذه التسوية ونحن ننظر إليها، هذه هي الطريقة الوحيدة لحماية حقوقنا، ولمنع تكرار ما وقع لنا في سنة 1948، عندما ضم الملك عبدالله الضفة الغربية والقدس الشرقية إلى الأردن، وعندما أصبحت غزة تحت الحكم المصري بعد أن احتلت إسرائيل 77 % من فلسطين. يجب أن نكون موجودين على الأرض كي لا يحدث شيء على حسابنا. يجب أن نشارك لنحسّن فرصنا”.
لم يعجب حديث عرفات معظم الشبان والشابات، وجرى نقاش شديد الوطأة في مشهد لـ “ديمقراطية البنادق” التي سادت حركة المقاومة الفلسطينية في ذلك الزمن من سبعينيات القرن العشرين. لم يقنع عرفات معظم الحاضرين، لكنهم استمعوا إليه كما استمع إليهم.
مثّل هذا الطرح بدايات تفكير عرفات في الحل الوسط، وفي تجربة طريق مختلفة بكل تعقيداتها ومصاعبها.
لقاء مع عرفات في الأمم المتحدة
لم أكن أعرف أنني سألتقي عرفات ثانية في سنة 1974، لكني هذه المرة سألقاه في مكان غير متوقع. فقد نظّمت مع أصدقائي في الجامعة في جورج تاون حملة كبيرة للذهاب إلى نيويورك والقيام بتظاهرة لمناسبة مجيئه لإلقاء كلمة في الأمم المتحدة. فهذه زيارة عرفات الأولى للولايات المتحدة، وهو المصنّف “إرهابياً” في أميركا، وقد خرجت ضده وضد زيارته لمدينة نيويورك تظاهرة نظّمتها القوى المؤيدة لإسرائيل وتجاوز عدد المشاركين فيها نصف مليون شخص.
وعلى الرغم من عدم اقتناعي بطروحاته بشأن الدولة الفلسطينية في ذلك الوقت، فإن خروج هذا العدد من الناس ضده في نيويورك لأسباب تتعلق بما يمثّله تجاه الحقوق الفلسطينية، فرض علينا أن نخرج للترحيب به في نيويورك. لقد عملت جميع الدول العربية بإصرار على جعل عرفات يلقي كلمته في مبنى الأمم المتحدة في قاعة الجمعية العامة، وقد تحدث الرئيس اللبناني سليمان فرنجية، في لحظة تفاؤل لن تدوم، باسم العرب، مرحّباً بعرفات.
إن أهم ما قاله عرفات في ختام ذلك الخطاب التاريخي الذي كتبه الشاعر محمود درويش والمفكر إدوارد سعيد، أنه جاء إلى الأمم المتحدة حاملاً غصن الزيتون في يد والبندقية في يد، مطالباً العالم بعدم إسقاط غصن الزيتون من يده.
إن بعض المرونة التي أبدتها منظمة التحرير وأبداها عرفات في ذلك الوقت، بما فيها وقف الأعمال العسكرية التي تصيب أطرافاً ثالثة في أراضي دول أُخرى غير فلسطين، أصبحت سبباً رئيسياً في حينه في كسب الأصدقاء والحصول على كثير من الدعم الدولي في تلك المرحلة، بما فيها إدانة الأمم المتحدة للصهيونية والممارسات الإسرائيلية. وبعدما ألقى عرفات كلمته، ذهبت مع أصدقائي إلى حفل الاستقبال الذي خُصص له.
الأب الروحي للمقاومة
في سنة 1974 تبنّى عرفات، وتبنّت منظمة التحرير وبرلمانها في المنفى (المجلس الوطني) وحركة “فتح”، برنامجاً مرحلياً وخطّاً علنياً يدعو إلى الدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس. لكن من جهة أُخرى بدأ يتضح أن التسوية ليست قادمة، وذلك بسبب ضعف الحكومة الإسرائيلية وبداية ارتفاع شعبية اليمين الإسرائيلي جرّاء الهزة التي واجهتها إسرائيل في حرب 1973. لقد شهدت سنة 1974 سلسلة من العمليات الانتحارية الفلسطينية التي عبرت الحدود اللبنانية إلى فلسطين، وساد تلك السنة استعداد أكبر من جانب إسرائيل لقصف المخيمات الفلسطينية في لبنان بالطائرات الحربية. كما أن الاستيطان في القدس ومحيطها أصبح أكثر كثافة، واستمرت حركة المستوطنين في محاولة خلق وقائع تجعل الانسحاب من الضفة الغربية والقدس أقرب إلى المستحيل.
عرفات والحرب الأهلية اللبنانية
عانى عرفات في بداية الحرب الأهلية جرّاء تناقضين كبيرين هزا قاعدته اللبنانية وتحالفاته الإقليمية. فقد أراد من جهة أن يدعم الحركة الوطنية اللبنانية للمساعدة في وقف الحرب الأهلية التي انفجرت في أواسط أبريل/ نيسان 1975، لكنه كان يخشى في الوقت نفسه من قيام بعض حلفائه بتصعيد كبير يُفشل جهود الحل. ولهذا لم يكن مؤيداً لتفجير حرب واسعة في الداخل اللبناني في إثر حادثة مجزرة “باص عين الرمانة” التي قام بها حزب الكتائب.
ولم يكن عرفات من جهة أُخرى مؤيداً لشعار عزل حزب الكتائب وتجريده من السلاح، والذي رفعه حلفاؤه في الحركة الوطنية اللبنانية بقيادة زعيمها كمال جنبلاط، لأنه كان يعلم أن المسيحيين سيفسّرونه عزلاً لهم في المعادلة اللبنانية الصعبة والمعقدة. فبالنسبة إلى عرفات لم تكن المعركة الأساسية مع الكتائب، وإنما مع إسرائيل.
وتشهد مراحل الحرب الأهلية الأساسية على رفض عرفات حجج كثير من التيارات التي رأت أن الفرصة مواتية لهزيمة حزبَي الكتائب بقيادة بيار الجميل والأحرار بقيادة الرئيس السابق كميل شمعون، وما كان يُطلَق عليه الخط الانعزالي. لكن تفاعلات الحرب ستُخرج الأمور عن السيطرة وصولاً إلى التدخل السوري العسكري في لبنان في ربيع سنة 1976، واندلاع معارك واسعة النطاق بين الجيش السوري وحلفائه من الكتائب والأحرار من طرف، وبين المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية من طرف آخر، الأمر الذي دفع الملك السعودي خالد بن عبد العزيز إلى الاجتماع بالرئيس حافظ الأسد والرئيس اللبناني إلياس سركيس ورئيس منظمة التحرير ياسر عرفات، بحضور الرئيس المصري أنور السادات، في أكتوبر 1976، وهو اللقاء التاريخي الذي أوقف المعارك، وقاد إلى تسويات في غاية الأهمية.
لقد أعاد هذا اللقاء التفاهم بين الطرفين الفلسطيني والسوري ، وأعاد تقسيم العمل جاعلاً المقاومة تعود في معظمها إلى الجنوب اللبناني، فتقوم بدورها الحقيقي ضد إسرائيل . لكن الأحداث ستؤكد أن شيئاً ما انكسر في العلاقة الفلسطينية السورية جرّاء هذه الحرب، وسيبقى الأمر كذلك فترة طويلة، وستكون العلاقة السورية الفلسطينية بعد ذلك علاقة الضرورة لا علاقة التحالف والألفة السابقة.
كما أن سورية ستكتشف أن كل مَن تدخل في لبنان لن يحقق أهدافه بلا ثمن باهظ وصعب. لقد حققت سورية في هذه الحرب تقدماً كبيراً على صعيد العمليات العسكرية، لكنها ستفقد جزءاً كبيراً من التعاطف بين الدول والشعوب العربية المناصرة للقضية للفلسطينية، فضلاً عن أن الموقف السعودي والكويتي والخليجي سيكون متحفظاً على محاولة تفرّد سورية في لبنان، كما أن الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية هي الأُخرى غضبت جرّاء التدخل السوري ضد أنصارها في الحركة الوطنية اللبنانية والفلسطينية. (يتبع).
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 4451 - الخميس 13 نوفمبر 2014م الموافق 20 محرم 1436هـ