كشفت المؤشرات الأخيرة عن اضطرابات في سوق النفط التي اتفق الاقتصاديون على صعوبة تقدير إيراداتها بعد تراجع سعر البرميل من 115 إلى حدود 80 دولاراً، وربما أكثر إذ قدّرت نسبة التراجع بـ 25 في المئة عن مستوى العام الماضي. ترافق ذلك مع قيام المملكة العربية السعودية بخطوةٍ وصفها المراقبون بالهجومية والاستباقية، وذلك بخفض أسعار نفطها للأسواق الآسيوية بما يتراوح من 60 سنتاً إلى 1,20 دولار للبرميل، حسب نوع النفط، ومن 20 - 40 سنتاً للبرميل المتجه للأسواق الأميركية والأوروبية حتى أواخر سبتمبر/ أيلول الماضي.
ترى ما هي الأسباب وراء ذلك؟ وهل يعكس هذا مظهراً من مظاهر حرب اقتصادية مكشوفة؟ وهل تتضمن هذه الخطوة رسالةً من الرياض للتعبير عن استعدادها لمزيدٍ من خفض الأسعار حفاظاً على حصتها في السوق بصفتها أكبر مصدّر عالمي للنفط؟ الإجابة عن هذه الأسئلة وتلك، ستكون محور مناقشتنا في الجزء التالي.
خلصت تقارير متعددة إلى إن ما يحدث بالفعل صراع جيوساسي و«حرب اقتصادية» تكمن وراءها أسباب متباينة يتشابك فيها ويتداخل الاقتصاد بالسياسة، لاسيما وإنهما وجهان لعملة واحدة، ففيما يتعلق بالجانب السياسي هناك فرضية يتم تداولها إعلامياً حول وجود قرار أو تنسيق بين الولايات المتحدة الأميركية والسعودية يدفع باتجاه رفع مستوى المعروض النفطي في الأسواق العالمية والهبوط بأسعاره بهدف الضغط على روسيا والتأثير على موقفها تجاه المسألة الأوكرانية، ومقايضة النفط مقابل تخليها عن نظام الأسد. هل هذا صحيح؟
ظاهرياً يبدو الأمر كذلك، فروسيا تأثرت بالفعل سلباً لاسيما وإيرادات ميزانيتها تعتمد في أكثر من النصف على عائدات النفط، ما قد ينتج عنه تبعاً للمحللين تقلصٌ في إيرادات الخزينة بمقدار 14,6 مليار دولار. كما أدى بالمصرف المركزي إلى رفع سعر الفائدة لمستوى 9.5 في المئة، وخسر فيها الروبل الروسي حوالي 23 في المئة في سوق القطع وتراجع أمام الدولار الأميركي بنسبة 9 في المئة. وماذا أيضاً؟
أيضاً قيل لإضعاف موقف إيران في المفاوضات النووية مع الغرب وخلخلة تحالفها مع روسيا وموقفهما تجاه الصراع العربي، الذي تشارك فيه إيران بالوكالة وبقوة في سورية واليمن والعراق ولبنان، فالعلاقات السعودية الإيرانية كما يشير الكاتب مصطفى اللباد في «السفير»، تمثّل محدداً رئيسياً للصراع الإقليمي، حيث شرعت الرياض من وجهة نظره في نقل صراعها الإقليمي مع طهران إلى أسواق النفط العالمية بسبب إجرائها تخفيضات على أسعار نفطها العربي الخفيف في الأسواق الآسيوية الحيوية القادرة على استيعاب المزيد من الإمدادات النفطية بسبب نشاطها الاقتصادي وكثافتها السكانية وضعف مواردها من النفط والغاز، ما يجعلها الميدان التنافسي الرئيس بين منتجي النفط.
إلى ذلك ثمة من يرجّح أكثر فرضية الأسباب الاقتصادية على الرغم من أهمية الجانب السياسي، ففي المشهد تخمة نفطية تعاني منها السوق بسبب ارتفاع عرض النفط العالمي بحوالي 500 ألف برميل يومياً، مقارنةً بحجم الطلب عليه، ومنطقياً هذه الزيادة تدفع باتجاه خفض الأسعار. في هذا الصدد توصلت نتائج مسح لوكالة «رويترز» إلى أن إنتاج منظمة «أوبك» بلغ في سبتمبر الماضي حوالي 30,96 مليون برميل يومياً، بينما الطلب المُتوقع للسنة القادمة في حدود 28,8 مليون برميل يومياً، ما يعني توفر فائض قدره 2,16 مليون برميل يومياً. أضف إليها تراجع الاقتصاد الأوروبي والصيني الذي يؤثر سلباً على الأسعار في سوق العرض والطلب، كونهما المستورد الرئيسي للنفط والغاز، والصين هي ثاني أكبر مستهلك للذهب الأسود، واقتصادها - تبعاً لتقارير عديدة - يمر ببطء النمو، وتراجع الإنتاج خلال العام الحالي من (من 7 - 9 في المئة).
في تفاصيل التخمة النفطية ودواعيها، نحتاج لإلقاء نظرة خاطفة على واقع سوق النفط وخصائصها في السعودية التي بادرت كما أسلفنا بخطوتها الهجومية، باستهدافها الموازنة الإيرانية والاستباقية تحسباً من طرح كميات نفط إيراني أكبر فيما لو نجحت المفاوضات النووية، فخطوة خفض الأسعار قد ساهمت بهذا الشكل أو ذاك باضطراب السوق، وعليه يمكن إيجاز النظرة على النحو التالي:
- تتمتع السعودية بالحصة الأكبر من إنتاج منظمة «أوبك» بسبب احتياطياتها الضخمة التي تشكل ربع الاحتياطي العالمي، كذلك ما ساهم به غياب النفط العراقي عن السوق لفترة طويلة والإيراني حالياً بسبب العقوبات الدولية، الأمر الذي يرفع من قدرتها التصديرية نحو 10 ملايين برميل يوميا، فيما تصدر إيران مليوناً ونصف مليون برميل يومياً، بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، وهذا يعني بالطبع تراجع إيرادات الخزينة الإيرانية المعتمدة على النفط بقوة.
- يمكن للسعودية حسب المحللين وبسبب حجم احتياطياتها تحمل عبء أية خسائر فيما لو قرّرت الاستمرار في حرب الأسعار، لما لا وهي التي تحتفظ بطاقة إنتاجية فائضة تمثل 1-2 مليون برميل، تمكّنها من تعويض أي انقطاع في إمدادات السوق بالنفط، وهذا قطعاً يعزّز من وضعها الاستراتيجي عالمياً كما يعوّضها عن تدني عائداتها بسبب انخفاض الأسعار.
- تتوافر السعودية على احتياطي عملات صعبة يقدر بـ «768 مليار دولار»، بسبب ارتفاع صادراتها الذي تزامن مع ارتفاع أسعار النفط خلال السنوات الأخيرة وانخفاض أكلاف إنتاجه، ولكن مهلاً!
على الرغم من ذلك، فصندوق النقد الدولي توقع أن تشهد موازنة السعودية عجزاً يصل إلى 1.5 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، ما يعني احتمالية اللجوء إلى الاحتياطيات لسدّه، أو خفض برامج التنمية والدعم الاجتماعي وتوفير الوظائف في القطاعين العام والخاص، خصوصاً وأن عائدات النفط تمثّل ما نسبته 90 في المئة من دخل الدولة مقارنةً بـ 60 في المئة تعتمدها منافستها إيران. كما أشار الصندوق إلى ارتفاع حجم الإنفاق الداخلي بنسبة 52 في المئة، ومبلغ 265 مليار دولار العام 2010، إضافةً إلى ما تتكبده ميزانية الدولة من أكلاف إزاء دورها الإقليمي الذي تلعبه والتزاماتها الخارجية خلال السنوات الأخيرة والتي بلغت حسب التقارير 22.7 مليار دولار.
إلى جانب تلك الأسباب، يبدو أن استخدام الولايات المتحدة تقنية التكسير الهيدرولوجي للوصول إلى كميات من النفط والغاز الصخري، قد ساهم في تقليص وارداتها النفطية وزاد إنتاجها المحلي وجعلها مصّدرةً لبعض منتجاته، وأصبح نفطها منافساً قوياً في السوق خصوصاً بعد رفع إنتاجه بنسبة 47 في المئة، حيث وصل إلى 8.5 ملايين برميل يومياً. وانعكس ذلك سلباً على الدول التي كانت حتى الأمس تصدّر النفط إلى الولايات المتحدة فصار عليها البحث عن أسواق جديدة. ومع ذلك فالسعودية تتميّز في المقابل بكون كلفة إنتاج برميل النفط الصخري تبلغ 3 أضعاف كلفة إنتاج النفط السعودي. وعليه هل تمثل الخطوة الإستباقية ضماناً لمرور السياسة النفطية السعودية بما يحقق استمرار النمو وارتفاع العائدات وتجنب العجوزات؟
المسألة نسبية، فهناك دول أخرى في «الأوبك» قد تجهد من ناحيتها إلى تقليل التخمة النفطية وخفض الإنتاج سعياً لرفع السعر إلى مستوى فوق 100 دولار للبرميل، وبالتالي قد تأتي مواقفها لصالح الخصم الإيراني الذي قد يلجأ إذا ما زادت الضغوطات إلى ممارسة نفس اللعبة في الأسواق الآسيوية، مع التنويه إلى أن السقف المعتمد في موازنة السعودية لسعر البرميل في حدود 87.6 دولار، وأي تراجع عن ذلك سيرفع مستوى العجز والتالي اللجوء إلى الاحتياطيات لتغطيته.
إلى هنا يبقى السوق في حال توازن سلبي، وأية خطوة لا تحتسب بدقة قد ترتد بكوارث على اقتصاديات المنطقة التي يغيب فيها المواطن عن مواقع المساءلة وصناعة القرار والمشاركة في الثروات.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 4449 - الثلثاء 11 نوفمبر 2014م الموافق 18 محرم 1436هـ
ابحث عن النفط والغاز
كلها لعبة مال ونفط وغاز. يتم تغليفها بغطاء طائفي وديني لتضليل الشعوب.