حكومة البشر وتطورها عبر التاريخ إلى اليوم، ووقائعها وأحداثها، مدونة في تاريخ الأمم والشعوب. مصدرها بشري ومرجعيتها عقول البشر، ووسائلها تتراوح بين التغلب والقهر وانتزاع الملك، وبين استرضاء الشعوب والمشاركة في الحكم والقرار.
كما أن التاريخ سجل أيضاً وقائع وأحداثاً لحكومات ودول حكمت شعوبها باسم الدين الإلهي، وبينما مارست الكنيسة في روما حقها في تنصيب الملوك تحت مسمى «الحق الإلهي»، كذلك مارس خلفاء الدول الإسلامية الحكم تحت مسمى خليفة المسلمين والحاكم بأمر الله وظل الله في الأرض. واتخذوا من مسمى «البيعة» بالإكراه سلاحاً أشهروه في وجه المعارضين تحت مسمّى الخروج عن طاعة أولي الأمر. ثم ادعاء تطبيق شريعة الإسلام بحقهم من قتل وتشريد، والإستناد إلى ما ورد في القرآن الكريم باعتبارهم من المفسدين في الأرض.
وبخلاف ذلك، فإن عصر الخلفاء الراشدين يعتبر العصر الذهبي في تاريخ الخلافة الإسلامية، لقربه من عهد الرسول الأكرم واشتهاره بالعدل والإحسان والحفاظ على أموال المسلمين، وضيق الرقعة التي انتشر فيها المسلمون، وانصراف معظم النفوس عن الشهوات وحب الدنيا، هذا إلى جانب بساطة إدارة الحكم في مجتمع صغير نسبياً.
ويتخذ معظم الدعاة لإقامة خلافة إسلامية في هذا الزمان، الخلافة الراشدية مثالاً يُحتذى في هذا العصر. ويبدو لي أن ذلك تصور ساذج لا يأخذ في الحسبان تغيّر النفوس، ولا تغيّر الأحكام بتغير المكان والأزمان. والكل يعلم أن عالم الأمس القديم ليس هو عالم العصر الحديث، كما أنهم يتجاهلون المصير الذي انتهى إليه عصر الخلافة الراشدية.
وللتذكير بذلك -من أجل العبرة فقط لا من أجل نبش الخلافات- فإن نهاية الخلافة الراشدية في عهد الخليفة عثمان (رض) والخليفة الإمام علي بن أبي طالب (ع)، لم تكن على ما يرام ولا ما يطمح إليه أولئك الدعاة اليوم. فانظر ماذا جرى: صحابة رسول الله يتقاتلون فيما بينهم، ويتفرق المسلمون، ثم يتحزبون أشياعاً لهذا أو ذاك، وكل حزب بما لديهم فرحون.
وقد سمى المسلمون قتل عثمان بأنه «الفتنة الكبرى»، واختلفوا في تسمية مقتل علي بين حزب الأمويين وشيعة علي وأهل بيته، فهذا فرِحٌ وذاك محزون. والعبرة فيمن لا يعتبر من تلك الأحداث الجسام ثم يدعو لبيعة خليفة في هذا العصر.
إن جميع تلك الأحزاب والمتقاتلين فيها كانوا يقرأون القرآن ويروون أحاديث الرسول التي تحذّرهم من الفتن ويؤذنون للصلاة، حالهم حال أولئك الذين قتلوا الإمام الحسين بضعة الزهراء وريحانة الرسول الأعظم؛ وحال من آذوا أهل بيت الرسول وشتموهم على المنابر وشرّدوهم في بقاع الأرض واستباحوا من المسلمين أموالهم وأعراضهم (كما حدث في استباحة مدينة الرسول أربعة أو خمسة أيام وفي استباحة أهل مكة كذلك ومحاصرة بعض الصحابة في الحرم المكي ورمي الكعبة المشرفة بالمنجنيق). كما أخضعوهم بالسيف لأخذ البيعة والولاء. وهو ما فعله خليفة المسلمين معاوية بن أبي سفيان في أخذ البيعة بحد السيف لابنه يزيد. ومثل ذلك فعله من جاء بعدهم من الخلفاء، فلم تعصمهم صلاتهم وصيامهم وتلاوتهم عن اقتراف تلك الآثام.
وكاد المسلمون أن يستريحوا من دعوى الخليفة والبيعة بعد انشاء خلافة آل عثمان، ثم يتفرغون لتنظيم شئون حياتهم ومزاحمة أمم العالم الحديث في التقدم والإصلاح في شتى الميادين، لولا أن ذرّ اليوم قرن الخلافة والبيعة من جديد على أسوأ ما عرفه التاريخ من قتل وانتقام ووحشية وتشريد.
فليعتبر بذلك من يدعون إلى تحكّم فرد أو جماعة أو حزب في رقاب المسلمين تحت مسمى بيعة أو دين أياً ما كان. فالدين للفرد المسلم بينه وبين ربه، وكلهّم آتيه يوم القيامة فرداً، والعاقبة لمن اتقى. والدعوة الإسلامية أحرى بأن توجه لاستقامة الأفراد ليصلح بهم المجموع، والله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم. وحري بالجمعيات الإسلامية والدينية أن تبدأ من أسفل الهرم إلى الأعلى وليس العكس. كما أنه من الأحرى بالسلطة التشريعية والرقابية المنتخبة أن تهتم بإصلاح الدولة ومؤسساتها.
وسياسة الحكومات هي من شئون الدنيا ومصالح البشر لاسيما في أحكام وقوانين هذا العصر، وحين يشاء الله عز وجلّ إنقاذ البشرية من الضلال فذلك مرهونٌ بقدره وميقاته. وقد مكّن الله في عهد رسوله الكريم للمؤمنين دينهم الذي ارتضى لهم، وبدّلهم من بعد خوفهم أمناً، فانظر ماذا فعل خلفاء الإسلام من بعد الرسول.
ويستشهد كثير من دعاة إقامة الخلافة الإسلامية بآيات من القرآن الكريم تدعو إلى الحكم بما أنزل الله، وقرائن تلك الآيات وأسباب نزولها تشير إلى أن الحكم المقصود به هو حكم القضاء ونزاهته وعدالته. وبعضها نزل في يهود المدينة الذين لم يقبلوا بحكم الرسول. ومعظم ما ورد عن «الحكم» ومشتقاته في الكتاب كان مقصوداً به التقاضي والقضاء: «وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل» (النساء، 58).
كما يتمسّك آخرون بمبدأ الشورى في الحكم، استناداً لقوله تعالى: «والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون» (الشورى، 38). ونلاحظ هنا أن الشورى جاءت معطوفةً على الواجبات التعبدية في سياق الإلزام. كما نلاحظ أن عبارة «وأمرهم شورى» لا تخص الواجبات الإيمانية التعبدية، فهي لا تخضع للشورى وإنما الوارد في السياق أن الشورى تكون في أمور المسلمين المعاشية وأمور الدنيا عامةً، بما في ذلك سياسة الحكم والإدارة، وما هو مأثور من قول نبي الإسلام: «أنتم أعلم بشئون دنياكم..».
ومفهوم الشورى يتسّع ليشمل نظام الأسرة والجماعة، كما يتسع أكثر من ذلك ليشمل تفويض الشعب لممثلين عنه في المجالس النيابية. وذلك في اعتقادي هو أصح مفهومٍ للشورى مناسب لأساليب الحكم الديمقراطي في هذا العصر.. والحكومات المدنية في ديار المسلمين التي أنشأت دساتيرها وقوانينها وأنظمتها طبقاً للنظام الديمقراطي الصحيح أفسحت المجال لجميع الأحزاب بما فيها الأحزاب والتيارات الإسلامية وأحزاب المعارضة للدخول في البرلمان والمشاركة في الحكم والتشريع طبقاً لإرادة الشعب. وحسمت تركيا أمرها في الفصل بين سياسة الحكم والإدارة وبين العقائد الدينية لمواطنيها، ولم يمنع ذلك من نجاح «حزب العدالة والتنمية» الإسلامي، في تولي زمام الحكم بقيادة رجب طيب أردوغان.
كما نجحت أحزاب أخرى وجماعات ذات توجه إسلامي في تولي زمام الحكم في دول مسلمة أخرى عن طريق صناديق الاقتراع، فمنهم من أحسن واستمر ومنهم من أساء وعُزل، لكنه احتفظ بحقه في المشاركة في الدورات الإنتخابية القادمة. وتلك إحدى ميزات الديمقراطية ضد الاستبداد والإستئثار بالمناصب الرسمية وحرية الرأي والتعبير.
وأرى أنه من الإجحاف وصف الحكومة الديمقراطية المدنية بأنها «علمانية»، بالمعنى الشائع في عقول عامة الناس من أنها حكومات «مادية لا دينية»، رغم أن دساتيرها تنص على أن دينها الإسلام، وهو مصدر التشريع أو مصدر من مصادر التشريع (على اعتبار المستجدات الحديثة كقوانين الاستثمار والتجارة والصناعة والهجرة وشئون الطيران والنقل والمواصلات وغيرها كثير). ورغم أنها تقيم المحاكم الشرعية وترعى الشئون الإسلامية والمراكز والمعاهد والأوقاف والجمعيات الدينية والحريات الدينية للجميع.
لقد تنبهت الأمم الواعية المفكّرة في دول الغرب بعد صراع طويل، إلى مخاطر ومساوئ تدخل الكنيسة في حياة الناس واستبداد ملوك أوروبا وطغيانهم تحت شعار الحق الإلهي، فجعلت لشعوبها سلطاناً يحميها من التسلط والخوف والتلاعب بمصائرها وثرواتها. ونصّت دساتيرها على أن «الشعب هو مصدر السلطات».
ثم استراحت وتوجهت للعلم والصناعة والبناء الحضاري، وتمكّنت بقوتها الجديدة من إيجاد مجتمع يتمتع بالحرية والأمن والاستقرار. بينما بلاد المسلمين ماتزال تتعثر في مسيرة التقدم والنمو وعدم الاستقرار، والنزاع فيها قائم على أشدّه منذ مطلع القرن العشرين إلى يومنا هذا، بين اختيار حكومة «مدنية» أو حكومة «إسلامية»، ولم تكفنا مئة عام لحسم هذا الصراع.
ويتجاهل دعاة الحكومة الإسلامية كثيراً من حقائق هذا العصر بالنسبة للحكومة المدنية، وأهمها ما يلي: أولاً: أن دول العالم بما فيها الإسلامية، أصبحت اليوم تضم في مكوناتها البشرية مذاهب إسلامية، وطوائف متعددة الأديان وأقليات قومية من كل نوع، وللمواطنين منهم حقوق المواطنة بالتساوي مع غيرهم، وتكفل حقوقهم الدساتير والمواثيق الدولية. كما أن الحكومة المدنية ملزمة بوضع تشريعات تنظم السلطات الرئاسية والتشريعية والقضائية والتنفيذية، وقوانين دقيقة مفصلة تنظم العلاقة بين الدولة والمجتمع وبين الأفراد والجماعات، كما تنظم جميع مرافق الدولة من وزارات وإدارات ومؤسسات مالية واقتصادية وخدمات ومرافق وعلاقات دولية... إلى آخر ما يمت إلى كيان الدولة وشئون الوطن والمواطنين.
وفي مقابل كل ذلك، نجد أن دعاة الحكومة الإسلامية لم يتوصلوا بعد إلى إعداد مشروع إسلامي مفصّل متفق عليه، لإنشاء كيان دولة على الطريقة الإسلامية، تناسب عصرنا الحاضر ومتطلبات الشعوب ومواطنيها، وأوضاع المسلمين اليوم لا تحتمل أن تصبح مختبراً للتجارب غير العملية. والمغامرات غير المحسوبة جيداً في عصر التقدم العلمي الهائل ونظم المعلومات والتكنولوجيا وتشابك المصالح بين دول العالم، ولم يعد ممكناً في هذا العصر تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار كفر. (يتبع).
إقرأ أيضا لـ "تقي محمد البحارنة"العدد 4448 - الإثنين 10 نوفمبر 2014م الموافق 17 محرم 1436هـ
3 من خلفاء المسلمين قتلوا بحالة اغتيال فأي وئام هذا ؟
الخلفاء عمر وعثمان والامام علي كلهم اغتيلوا فما هذا العصر الذهبي؟ 75% من خلفاء المسلمين قتلوا في حالة اغتيال فكيف يمكننا ان نطلق على ذلك العصر عصرا ذهبيا؟
إنه الوعد الإلهي الذي قاله القرآن الكريم (وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات او قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) الآية لم تقل انقلب بعضكم بل قالت انقلبتم وذلك لتغليب المنقلبين مما يدلل على كثرة المنقلبين على اعقابهم