العدد 4447 - الأحد 09 نوفمبر 2014م الموافق 16 محرم 1436هـ

في الهجرة عن الأوطان

سوسن دهنيم Sawsan.Dahneem [at] alwasatnews.com

«صعبةٌ هي الغربة، والأصعب منها هو أن تكون غريباً في وطنك وتضطر للخروج منه علّك تجد وطناً كما تشتهي»، كانت هذه العبارة هي ملخّص لحديث إحدى الصديقات اللواتي اضطررن للهجرة من البحرين التي لم ترَ غيرها قبل هجرتها هذه ولو من باب تغيير الجو. اضطرت الصديقة للهجرة بعد أن ضاقت الأرض بزوجها الذي تعرّض للملاحقة الأمنية على جرمٍ لم يرتكبه ككثيرين غيره في بلادنا والبلاد العربية.

حين تكون مضطراً لمغادرة موطنك الذي لا تعرف غيره بلاداً إلا في حصص الجغرافيا التي نسيتَ محتواها مع التقدم في العمر، ولا تعرف غير أهله شعباً إلا من خلال ما يرد من أخبار على شاشات التلفزة أو ما يرد بلادك من مقيمين وسوّاح ومواطنين جدد، ولم تسمع بغير أرضه تراباً طاهراً إلا من خلال ما تستورده بلادك من خضراوات وفواكه عرفت بطريق الصدفة أنها زرعت في أرض غير أرضك.

حين تضطر لمغادرة وطنك الذي يسكنك طفلاً مدللاً من غير أن تنتبه، وتسكنه هاجساً من غير أن تعي أنه الحضن الأكبر بعد حضن الوالدين. حين تضطر لمغادرة البلاد التي تحوي أهلك وصحبك وأبنائك وذاكرتك وهوائك الذي تعشق وتتنفس برغم كل تقلباته الطقسية والمزاجية في التعامل مع أبنائه. حين تكون مضطراً لهذا، فأنت تعرف أنك ستكون على موعدٍ مع الألم المستمر، والحزن الذي لا شبيه له، والفقد الذي لا يبرأ إلا باللقاء، والحنين الذي سيلازمك طوال حياتك إلى أن تعود إلى أرضه ومائه وحرّه وبرده وشعبه وكل تفاصيله الصغيرة.

تحاول الغربة أياً كان سببها أن تسلخ المرء من هويته، من ذاكرته الزاخرة بكل التفاصيل التي تطفو، حتى تلك التي اعتقد بأنه نسيها فوجدها تعانق ذاكرته بقسوة لم يألفها: البيت الأول الذي عاش فيه طفولته، الشارع الأول الذي لعب مع أصدقائه فيه، الحديقة الأولى التي زارها مع أبويه، وجه المعلم الذي وبّخه وذاك الذي مدحه حتى احمر وجهه خجلاً، الدكان القريب من المنزل والذي كان يمشي إليه بشوقٍ ليشتري له زجاجة مياه غازية لم يكن مسموحاً له شربها، أو كيساً من الحلويات المليئة بالسكر والألوان الصناعية، اللقاء الأول مع من يحب، والوجوه السمحة لأهله وأصحابه وأحبته، كل هذه التفاصيل وغيرها تغزو المهاجر فجأةً فلا يستطيع المرور بها أو بأماكنها لأن ما بينه وبينها أميالاً لا تحصى!

يتوهم كثيرون أن الهجرة القسرية هي هجرة اختيارية، وكنتُ واحدةً ممن يلومون من يضطرون للإقامة في دول غير مواطنهم الأصلية، ولكني حين عرفت حجم الشجن الكبير الذي يحمله هؤلاء المغتربون، وحجم الفارق الشاسع بين أوضاعهم في بلادهم وفي البلاد التي يغادرون إليها، تيقنت أن هذه الهجرة ليست إلا سيفاً مسلطاً على رقابهم من الممكن أن تفتك بهم في أية لحظة، إما من خلال المقارنة الموجعة بين ما وجدوه في الغربة وما عانوه في بلادهم، أو بسبب الحنين الذي لا يقوى عليه القلب البشري النابض بحب من/ ما يحن إليهم، وتيقنت أن المهاجرين لم يكونوا يوماً من أنصار الهجرة أبداً.

إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"

العدد 4447 - الأحد 09 نوفمبر 2014م الموافق 16 محرم 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 1:39 ص

      أجمل ما قيل في الغربة

      هل يعلم الصّحبُ أنّي بعد فُرقتهم *** أبيت أرعى نجوم الليل سهرانا
      أقضي الزمان ولا أقضي به وطراً *** وأقطع الدهر أشواقا وأشجانا
      ولا قريب إذا أصبحت في حزنٍ *** إن الغريب حزين حيثما كانا

    • زائر 1 | 10:48 م

      مغتربة

      كأنك قرأت ما بخاطري وكادت عيناي ان تدمع
      لولا انني أصبحت الآن أقوى باشغالي في دراسة الماجستير في أرض المهجر
      وسوف أعود يوما الى وطني بإذن الله ..

اقرأ ايضاً