قبل أكثر من 8 سنوات، وتحديداً في 18 مايو/ أيار 2006، كتبت مقالاً بعنوان «الشارع الذي نلعن»، هنا في صفحة قضايا. الشارع الذي يكون عنواناً وموضوعاً لـ «الشتيمة» أحياناً. أبسط النعوت: «أولاد شوارع». كتبت عن الشارع الذي غنَّتْه فيروز، فحوّلته إلى بيت؛ أو حتى مكان خاص كغرفة النوم، والشارع الذي «نهَق» به النقيض لها، مطرب «الشخْلعة»، شعبان عبدالرحيم! وشتَّان بين الشارعين. الأول «يعرش»، والثاني «يرعش»!
أي دولة اليوم لا تعرف قيمة الشارع من الصعب أن يطلق عليها صفة ومسمّى دولة. سمِّهَا ما شئت باستثناء تلك «اللازمة» المُمِّلة التي لا شيء يدل عليها. وثمة دول لا تعرف قيمة الشارع إلا حين تكون على محكٍّ لا مزاح فيه. ربما عُرفتْ قيمة الشارع العربي بعد الصفعة التي حدثت في شارع في تونس شغل جانباً منه بعربة بائع خضار أسقطت الدكتاتور هناك. من تلك الصفعة، انتبه جانب من النظام العربي إلى التهديد الذي يمثله الشارع.
من الشارع المصري نفسه، جاء خالد سعيد، ذو الثامنة والعشرين عاماً، الذي قُتل تحت التعذيب على يد مخبر، لافظاً أنفاسه يوم 6 يونيو/ حزيران 2010، لتولد على إثر ذلك حركة احتاج حقوقي مهّدت لثورة 25 يناير 2011. انطلق الشارع وقتها من شبكة التواصل الاجتماعي، وتحديداً «فيسبوك». لم يكن الشارع في كل تلك التحوُّلات، والانقلاب على خريف كاد أن يكون مُؤبَّداً، رصيفاً أو أكواماً من الحجارة. الشارع هو الناس برضاهم وسخطهم. بحلمهم وانفجارهم. بصمتهم والاحتجاج الذي يتحوّل إلى زلازل لا يمكن إخضاعها إلى أي مقياس للقوة.
قامت في مصر ثورتان. صحيح أن الوعي في الشارع المصري قبل 25 يناير لم يعد كما هو بعد ذلك التاريخ؛ لكن بعض الشارع ربما يسهو في ظل ترتيب أوضاعه عن أبسط حقوق الذين قدّموا أرواحهم؛ أو كانوا سبباً في التحوُّلات التي حدثت؛ لكن موهبة الحماقة والتخبُّط في الأداء السياسي يمنحان ذاكرة جمهور ذلك الشارع فرصة التنشيط والتحديث. الذاكرة هي الأوْلى بالتحديث من أي جهاز اتصال يكاد يعزلنا عن العالم من حولنا!
التجارب الناقصة في «الديمقراطية» المُشوَّهة، والتي يتم التلاعُب بها، ومحاولة تمريرها على أنها آخر النماذج، في البلدان المتأخرة بفعل الطغيان والفساد، دفعت إلى «الالتفات» إلى الشارع ولكن ليس بعيداً عن «الالتفاف» والمناورة والخداع وتوزيع المُهدّئات، وإلقاء فتات من أصل حقوق كبرى لا حصر لها، لا يُراد لها أن تسود في دنيا الناس وواقعهم.
الأخطر من ذلك أنه تم خلّق شارع مضاد ومُهجَّن. شارع يتم تسييره وتوجيهه بحسب الطلب؛ ليس للتشويش فحسب؛ بل ضمن خيار يُراد له أن يخلق صداماً، يُتيح فرصة لمثل تلك «الدول» كي تقدِّم نفسها للعالم باعتبارها صمّامَ الأمان، عبر ممارسة لن تخلو من التمييز، والتحريض المبطّن والتخوين. كل ذلك يأتي أحياناً بشكل مباشر، وأحياناً بـ «الوكالة» عبْر الشارع المصطنع والمدفوع دفعاً.
الجمعيات السياسية هي الأخرى، وضمن ذلك العالم، وفي نطاق التجارب المنعدمة أو الناقصة، لن يكون أداؤها بالضرورة مثالياً، في ظل معوّقات وتحوُّل كل المؤسسات إلى جهات أمنية؛ حتى تلك التي يتحدَّد دورها في تقديم الخدمات. على العكس، يشوب الأداء شيء من الارتجال والاندفاع والتراجع والتراخي أحياناً، وشيء من المصادرة وشيء من التجاهل لبعض مطالبات ذلك الشارع أحياناً أخرى. يحدث ذلك، وهي تعلم (الجمعيات) أن قيمتها وأثرها لن يتحققا بعيداً عن ذلك الشارع وفي معزل عنه. هو نفسه الشارع الذي سيتم نسيانه وركْنه جانباً فيما لو استقرّت الأوضاع، واستتبّت الأمور لأي من الأطراف: السلطة وبعض نماذج المعارضة والأطياف الممثلة لمؤسسات المجتمع المدني.
مقال العام 2006، الذي أشرتُ إليه في بداية هذه الكتابة، وإن تناولت خلاصته الجمعيات السياسية والمعارضة خصوصاً، وأشارت إلى السلطة في ثناياه، إلا أنه لم يُشِرْ إلى الشارع الذي يغصُّ بجماهير يتم استدعاؤها، ترغيباً أو ترهيباً، لا قضية ولا رسالة له؛ سيتبخّر مع تلاشي أسباب الاستدعاء ذاك. تماماً كالأداة التي لها عمر افتراضي لتجد نفسها مركونة في أحد المخازن؛ أو في محلات بيع الخردوات. الالتقاطات تلك ظلّت كما هي لم تتغيُّر، ولن يمسَّها تغيُّر حين التعامل معها والنظر إلى المستجدَّات والمعادلات على الأرض عموماً.
كانت الخلاصة: كل جمعية سياسية تريدُ أن تستحوذ على دور أو ربما تخطفه، تظلّ عينُها على الشارع. وهذه المرة ليس باعتباره أسفلتاً أو زقاقاً؛ بل باعتباره حيّزاً يفيض بالسطوة، وواحداً من أنجع وسائل الضغط. لكأنها بذلك الحسبان تتعاطى مع الشارع باعتباره وعاءً يمتلئ بوسيلة ضغط... بزحف بشري، يستعرض سطوتها، فيما هي خارج ذلك الدور تنظر إلى الاثنين معاً على أنهما من نسيج ونطفة واحدة؛ وخصوصاً حين يفيض الشارع بعيداً عن آليّاتها ودوْرها وسطوتها. تراه حينئذ مزدحماً بـ «أبناء شوارع»!
تكرَّرت مشاهد استدعاء مثل ذلك الشارع بجمهوره الخانع من قبل أكثر من نظام عربي؛ سواءً ممن يرمي للناس وهمَ خيار انتخاب رئيسه؛ أو الذي لا مجال حتى للحلم بذلك لأنه سيتحول إلى كابوس ورعب على صاحبه. لم يحقق جمهور ذلك الشارع أدنى تغيير في واقعه البائس؛ كأنه لا يريد ذلك. في الوقت نفسه لم تنطلِ محاولة خداع العالم بذلك السيل البشري الذي يملأ الساحات تحت حراسة الأمن والمخابرات والجيش، تمجيداً للواقع المتخلف والمزري.
الشارع الحقيقي بجمهوره الصلب المؤمن بحقه في حياة حقيقية كبقية خلق الله، ستراه في الساحات في الوقت والمكان اللذين يحددهما؛ مع معرفته بالفواتير التي سيدفعها؛ وخصوصاً مع انسداد أفق التغيير.
أليس بيننا من الجمعيات اليوم من ثبّت تلك النظرة لديه؛ وخصوصاً في صدوعها لأوامر النزول إلى الشارع ترغيباً أو ترهيباً لجمهورٍ لا قضية ولا رسالة له سوى أن يكون تحت الطلب لخدمة مصالح وأهداف تتآمر على الجميع؛ باستثناء الذين ارتضوا التغييب؛ أو أولئك الذين يتطابقون مع الذي يملك أدوات الترغيب والترهيب، فقط ارتباطاً بمصالح يحيون ويتنفسون بتحصيلها؟
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4447 - الأحد 09 نوفمبر 2014م الموافق 16 محرم 1436هـ
المتمردة نعم
انا اشهد ان هذا الكاتب الفذ .... حين يمسك قلمه ينظر الى كل الزوايا ولا يركز او يتعصب لزاوية دون اخرى خصوصا الزوايا الزرقاء ليس فقط لانها الزوايا التي يحب.وهذا عشمنا في بعض ملوك الكتابة في الوسط كالجمري لا يميل كل الميل ولا يتغاضى ايضا عن هفوات جماعته.بارك الله فيكم ولا حرمنا من كتاباتك الثرية.