إذا كان لكل زمنٍ لغته، فإن لكل عصر أدواته أيضاً. وإذا كان الناس اليوم يُعبِّرون عن مشاعرهم ومواقفهم بالتكنولوجيا الحديثة سواء الكتابة الآلية أو عبر البريد الإلكتروني (Email) والتراسل الفوري (WhatsApp) أو الفاكس (Fax) فإن مَنْ لم يُدرك منهم هذه التكنولوجيا كان يلجأ إلى ما كان متاحاً لديه حيث القلم والورق فقط.
لقد كان الورق هو الوسيلة «شبه» الوحيدة لما هو مكتوب خلال حقبتَي الستينيات والسبعينيات، مع التحدي الذي كانت تُمثِّله الأمية حينها، رغم أن بداية التعليم الرسمي في البحرين كان قد بدأ عام 1919م، وتعليم البنات في عام 1928م، والتعليم الصناعي في الثلاثينيات، إلاَّ أن ما وَرَدَنا من تلك الفترة كان ينمُّ عن وَلَعٍ بالكتابة والتعبير عن المشاعر بطريقة فريدة على الورق، مع البداية الجنينية لتجذُّر التعليم في البحرين، وضعف وسائل الاتصال بما فيها الهواتف الأرضية، التي كانت موجودة لكنها في نطاق محدود جداً، بل وفي بيوت معروفة دون غيرها.
كان المدخل الحقيقي للتكنولوجيا في البحرين هو العقد الخامس من القرن الماضي، حين قام كل من بنك البحرين الوطني وبنك البحرين والكويت والبنك البريطاني للشرق الأوسط والبنك الشرقي (ستاندرد تشارترد لاحقاً) باعتماد نظام الحوسبة في معاملاتهم البنكية، تلتهم في العام 1962م شركة بابكو باستخدامها حاسوب IBM 1401 المركزي حسب متابعة أحد المؤرخين.
لكن، وعلى مستوى الأفراد، لم يكن ذلك متاحاً بالمطلق، مع بدائية الحياة خارج البنوك والشركات النفطية. فقد ظل الناس يعتمدون في مخاطباتهم على رسائل القرطاس، التي كانت تُبعَث بالبريد في الداخل والخارج، فضلاً عن الرسائل الخاصة أو قصاصات الورق، التي كان يكتبها الناس كملاحظات لبعضهم وتُرمَى من أسفل أبواب البيوت وفي أحيان أخرى عبر البريد، الذي كان يعمل في البحرين منذ العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر.
كانت المراسلات تتطلب جهداً أكبر في الإعداد والإرسال مقارنة باليوم، الذي لا تتجاوز فيه كتابة رسالة أزيد من عشر دقائق لتصل في بحر ثانية واحدة. إلاَّ أن الرسائل المكتوبة قديماً كانت تتسم بالدفء كونها أكثر توجيهاً وقصداً، وبالتالي تزداد أهميتها بالنسبة للمرسل والمرسَل إليه، والذي في بعض الأحيان كان يقوم بالرد على ظهر الوارد له.
في بعض مناطق البحرين، كانت الأحياء تضم بعضاً من الكُتَّاب، الذين يقصدهم الناس كي يُملُوا عليهم ما يودون كتابته إلى أحبائهم أو أصدقائهم، وخصوصاً أولئك الذين لم يَحْظَوا بتعليم كافٍ. لكن هذا لا يعني أن أحداً لم يكن قادراً على الكتابة بنفسه، بل إن هناك مَنْ كان لديه تمام القدرة على ذلك. وقد وجدتُ في بعض تلك المراسلات خطوطاً غاية في التأنُّق، وتعبيرات فيَّاضة، تدل على ما يتمتع به كاتبها من حسٍّ أدبي، ومهارة في إمرار القلم على الورق.
في إحدى المراسلات المؤرخة في 26 ثاني فطر سنة 1386هـ (كَتَبَها هكذا: ثاني فطر وهو الوصف الشعبي الدارج في البحرين لشهر ذي القعدة وهو يصادف بالتقويم الميلادي الثامن من مارس عام 1967م) يكتب المرسِل رسالة لصديقه الذي كان في رحلة دينية: «خصّ نفسك بالسلام وعلى أهلك وعلى الحجاج الذين معك» ثم يسرد أسماءهم جميعاً.
في شهادة صادرة عن المدرسة الأهلية في البحرين والتي كان مقرها في شارع القصر القديم بتاريخ 27 سبتمبر/ أيلول 1970م وبإمضاء مديرها المرحوم الأستاذ عبدالرسول التاجر، يشهد الأخير فيها بأن الطالب ع. م. «قد اجتاز الفحص النهائي في اللمس على الآلة الكاتبة العربية، بسرعة معدلها 30 كلمة في الدقيقة، مع الإتقان بدرجة 100 في المئة، وبسرعة معدلها 33 كلمة في الدقيقة مع الإتقان بدرجة 99 في المئة، ثم يقول: «إني أقدِّر أهليته الجيدة للغاية في النظافة والإتقان في فن الكتابة على الكاتبة العربية، لهذا لم أتوقف في إعطائه هذه الشهادة، التي أُوصِي به توصية شديدة لمن رَغِبَ في استخدامه».
ويظهر من طريقة الصياغة في نص الشهادة مدى العلاقة التربوية والدفء الذي كان قائماً بين الأستاذ والتلميذ، وفي الوقت نفسه الاعتناء بالكلمات وفق سبكٍ متين. وربما يرجع ذلك إلى ما كان يتمتع به الأستاذ التاجر من حِسٍّ أدبي، وثقافة واسعة، حيث إنه صاحب أنفس المكتبات البحرينية والخليجية «المندثرة»، وكان معلِّماً للغة العربية وأيضاً للغات الأجنبية كالإنجليزية إلى جانب المواد الأخرى، مثل الدراسات المصرفية وأمثالها.
في كثير من الأحيان، وبسبب بدائية وبطء المواصلات في ذلك الزمان كانت بعض الرسائل لا تجد طريقها الصحيح نحو المرسَل إليه، وبالتالي يكون مصيرها الضياع أو التلف. في إحدى الرسائل المؤرخة في 23 أكتوبر من العام 1971م يُذيِّل أحد كبار السن رسالته لابنه في خارج البحرين بهذه العبارة: «أخبَرتَنا في رسالتك الأخيرة، أنه لم تصلك أيّ رسالة من عندنا، حيث إننا أرسلنا (إليك) رسالتين» ثم يذكر تاريخ واحدة منها ويسهو عن الأخرى.
في إحدى الرسائل التي بعث بها المواطن إبراهيم أ. ك إلى صديقه البحريني الذي كان يدرس في الرياض حينها بتاريخ 5 ديسمبر/ كانون الأول 1972م يُعلمه عن آخر نتائج انتخابات المجلس التأسيسي في البحرين وفي الدوائر الـ 19 حيث صدَّرها بقوله: «أدوِّن لكم في هذه الرسالة أعضاء المجلس التأسيسي التي تم انتخابهم من قِبَل الشعب» ثم سردهم فرداً فرداً.
ومن الطرافة أن كاتب الرسالة وعندما يصل إلى مرشح الدائرة الثانية عشرة، وهي تشمل: جدحفص والسنابس والديه ومروزان وطشان والمصلى، يشير إلى أن الفائز هو الملا حسن أحمد زين الدين فيُعلِّق على ذلك: «وهو قَارِينا (أي مَنْ يصعد المنبر في مأتمنا) حصل على 596 صوتاً؛ لأن الشعب واضع الثقة عليه، لأنه متديِّن فيريدون منه سعادة الدين».
وربما تُشكِّل هذه الرسالة دالة أخرى على الحالة الإنثروبولوجية للمجتمع البحريني في ذلك الوقت، حيث كانت السِّمة المحافِظَة هي المهيمنة رغم قوة التيارات اليسارية والقومية. فقد كان موقع علماء الدين مركزياً في التوجيه والإرشاد، وبالتحديد في الحزام الريفي للبحرين، لذا، وجدنا فوزاً لبعضهم خلال العمليات الانتخابية في السبعينيات.
في إحدى القصاصات التي تُبيِّن حالة مديونية، ومؤرخة في 10 أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1975م يبدأ المرسِل بتسمية المرسَل إليه وإبداء التحية له، ثم يكتب: معذرة: وألفُ معذرة: لا داعي للاستفسار ولكن ليس إلاَّ .. المهم حسب ما أعتقد أن لكَ ما يقرب من الخمسون دينار (كَتَبَها هكذا بخطئها النحوي حيث كان من المفترض أن تُكتَب: من الخمسين ديناراً) وليس ثمانية وأربعين ديناراً، وها هي الدفعة الأولى والثانية عن قريب إن شاء الله تعالى».
وتُظهِر تلك الرسالة مدى الثقة التي كانت معقودة بين الناس، حيث كانت الاستدانة الشخصية في أغلب الأحوال، لا تخضع لعقود أو توثيق أو لأوراق قانونية، على رغم أن مبلغاً بمقدار 50 ديناراً، كان يساوي في ذلك الأوان 300 دينار بحسب رأي أحد الاقتصاديين. وربما يعكس ذلك طبيعة العلاقات الاجتماعية التي كانت سائدة في ظل زيجات الأسر السلالية وغياب الأسَر النووية الصغيرة، وبالتالي تداخل الدماء والعائلات ببعضها.
في رسالة جميلة، يكتب م. ع. ج. بتاريخ 14 مايو/ أيار 1975م إلى مسئول بأحد المؤسسات الحكومية الخدمية: «لقد ملَأَنا الفخر وسَرَى في جسمنا سيلٌ من النهر، حلوة منابعه، رقيقة نسماته، وانشرحت صدورنا، وتضخمت عضلاتنا، حينما نفَّذت حكومتنا الموقرة، فكرة الأجهزة اللامركزية». لكنه وفي ختام الرسالة يقول: «آه من دنيا تلعب الواسطة دورها الخطير في المجتمع، ولو كانت لدينا الوساطة لأُنجِزَت كل أعمالنا ولحُبَّت (أي قُبِّلَت) أقدامنا». وهو ما يعني أن بداية الرسالة كانت تحمل جانباً من التهكُّم بتكثيرها المدح والإشادة بالجهاز التنفيذي للدولة، لكنها سرعان ما توجِّه نقداً لاذعاً لها، مع الغمز لأبناء الذوات في تمرير أعمالهم دون غيرهم، كتعبير عن موقف سياسي ناقد.
وربما كانت الفترة التي تمت فيها تلك المخاطبات هي إحدى أهم الحقب التي مرَّت على البحرين، كونها كانت متصلة بفترة النضال ضد الوصاية البريطانية، وأيضاً تأثرها بالموجة القومية المتدفقة من مصر جمال عبدالناصر، حيث دماء العرب في حروب تحرير فلسطين لم تَجِف بعد، وبداية اندفاع الإسلام السياسي القادم من العراق ولبنان وشمال إفريقيا، وبالتالي تأثر البحرين بكل تلك العوامل، فضلاً عن تحولات الدولة البحرينية على مستوى الداخل، حيث المجلس التأسيسي ثم انتخاب أول مجلس نيابي بعد الاستقلال الوطني.
الحقيقة، أن الاطلاع على العقدين اللذين سبقا ثمانينيات القرن الماضي، يمنحنا القدرة على رؤية منسوب الحركة الاجتماعية والسياسية والتقنية التي كانت تعيشها البحرين في ذلك الأوان، ليس فيما تطرقنا إليه فقط، بل في العديد من الصور، لكنها وفي الوقت نفسه تحمل الكثير من الدلالات الجميلة لجزء مهم من تاريخنا الحديث.
العدد 4446 - السبت 08 نوفمبر 2014م الموافق 15 محرم 1436هـ
شكرا أستاذي
استمتعت كثيرا بما كتبت
فالماضي رغم صعوبة الحياة الا انه مليء بالنجاحات
شكر وتعليق
كل الشكر لك أيها الأستاذ الكريم، أظن أنك أخفيت إسم الكاتب : ع. م، ولا أظن إلا أنه والدك المرحوم عبدالله محمد رحمه الله. وأظن أن ما منعك من ذكر اسمه هو التواضع والابتعاد عن الشخصنة وهذه تحسب لك ككاتب
أتمنى عليك أن تدون كل الرسائل في كتيب أو كتاب إن اسعفك الدهر وتدون ملاحظتك عليها، شكرا لك مرة أخرى أستاذ محمد
البحرين 50 عام عدد سكانها لا يتعدى 600 الف نسمة
قبل خمسين عام كان الشعب منتهك ومتعدى عليه من دون ان يعرف العالم ما يجرى عليه بس صح ما كان تجنيس بهذه الطريقة , فكرة التجنيس فكرة جديدة
غريب الرياض
مع تقدم الزمن نفقد كل ما هو جميل في عالم مادي مليئ بالانانية. و اجيال قادمة ابسط وصف لها الفشل و الاستهتار و اضاعة الوقت