يتأبطون ملفاتهم، ينتظمون لالتقاط صورة، يبتسمون بانشراح وتأنق، يحملون أوراقهم المهترئة، يسوغون مشروعاً، يتحدّثون الكذب ويجترونه مراراً وتكراراً، يبثونه شفاهة وكتابةً باقتدار، يتقافزون من مؤتمر هنا إلى محاضرة أو ورشة هناك.
يتصدرون المشهد السياسي والحقوقي حيث يجيدون التمثيل المسرحي على الهواء في فضائية هنا إلى إذاعة هناك، بفهلوةٍ يتفننون في تقيؤ المصطلحات وما تعلموه في أحضانها حين كانت الحركة الوطنية وتنظيماتها حاضنةً ومقصداً وقبلةً لتحقيق المبادئ والأحلام. لم تعد اليوم ملاذاً في زمن الإفساد والعبث كما كانت بالنسبة لهم، ذلك لأنها لا تُؤمّن ترفاً أو بذخاً منتظماً، بل لا تصلحُ إطاراً يبرز الهيبة ويعظم الزعامة.
يعودون القهقري إلى كتبهم القديمة التي كانوا منها ينهلون، لِمَ لا والعلم والمعرفة عندهم أداة وعدة من عتاد الوصول الانتهازي إلى الهدف المنشود واقتناص الفرص، يطيلون النبش في بطونها يفتشون في بقايا خلاصات خطتها أقلامهم في الهوامش يوماً ما حول مفاهيم وأقاويل صاروا يثرثرونها ببسالةٍ وحماسةٍ باردة بعد أن تم تجويفها. بعضها يتعلق بمرتكزات دولة القانون ودستورها والمجتمع المدني والمواطنة وحقوقها وضرورة المشاركة السياسية في اتخاذ القرار؛ وبعضها بشأن نبذ العنف والاندماج في المجتمع وتأمين الحريات الشخصية والتشاركية والتمكين والمساواة وتجنب مخاطر الإستنكاف واللامبالاة في التصويت الانتخابي؛ والأخير يعد واجباً على المحكومين كما يرددون ويثبتون بالدليل القاطع كيف تطورت المجتمعات، وإن زمن العامة اليوم أجدى وأرقى منه أيام الفيلسوف أفلاطون في مدينته الفاضلة التي حصر فيها هذا الحق على الحكام الفلاسفة، أو عند أرسطو الذي جعل التمايز بين الأفراد عملاً من إرادة الإله لا يجوز التمرد عليه، أو حتى في زمن أثينا القديمة التي مارست التمييز بين الأثينيين الأصليين وغيرهم واستثنت النساء والعبيد والأجانب... إلخ. إنهم يبشرون بالتغيير الديمقراطي الذي يلقنونه بكل وسيلة وحيلة واستبسال ولسان حالهم يردد:
- «احمدوا ربكم»!
يقولون إن في أعناقهم أمانةً تفرض عليهم خلط الأوراق وتقديم التبريرات والتوضيحات. حقاً هل يعنون ما يقولون؟ الأمر لا يبدو كذلك، فبينهم وبين الناس أزمة ثقةٍ وجدار عالٍ، ومثل إنجليزي ينطبق عليهم «إن أردت معرفة حقيقة الإنسان، فأعطه مالاً أو سلطة».
قد تسعفهم الأمثال والأقوال وتجاربهم اليتيمة المبتورة وقليلٌ من الحذاقة في تمرير المواقف المعضلة بتوصيل فحوى الرسالة، إلا أنهم يتغافلون مع سبق الإصرار والترصد عمّا ذكره أمثال مونتسكيو عن استبدال الديمقراطية الحديثة مبدأ الحكم الإلهي بمبدأ المحاسبة والمراقبة، ففي شأنٍ كهذا كلٌ يرى الحقيقة بمقتضى مصالحه ونظرته للحياة. تارةً ينتشلهم منهج الديالكتيك وتارةً أخرى تحضرهم صيرورة التاريخ، ها هو كتاب «ما العمل» بالمطرقة والمنجل ولونه الأحمر وغيره الكثير مما تعلموا منه جميعاً عن المختلف والمختلف معهم في الدورات التدريبية، كيف يتشكل حزب الطبقة العاملة وماهية دوره مقارنةً بالطبقات الأخرى وعلاقته بالبرجوزاية والارستقراطية والأعيان، يستحضرون منه مقولة «خطوتان للوراء، فخطوة للأمام»! هل تنفع خطواتهم الإرتدادية في زمن الأوهام؟ هل تجدي وقد أرجعهم زمنهم الأسود وحظهم العاثر مئات الخطوات إلى الوراء حيث لا مراهنة على خطى التقافز إلى الأمام لاسيما وقد اختاروا طريق الهروب إلى درب الإذلال حيث المباخر والمدائح والصنائع والتلميع وتسويق بضائع الديمقراطية وحقوق الإنسان والإصلاح والمشاركة في الشأن العام، وإلى بدايات ونهايات حكايات «يا ليتني التي لا تنقضي ولا تنتهي».
هي رسالة سلمت إليهم، إعملوا عليها تناقلوها، سَلموها «تسلموا». المساكين حملوا ثقلها بأمانة الطفل المطيع ولكن كيف ما كان، رسالة لا تتطلب من الأمر الكثير، بيد أنها تبتغي الأكثر من الاصطفاف في الطابور وانتظار الإذن، ليس سوى حمل بضائع الكلام المكدس والمعلب لتسويغه في المشهد العام حيث تنتشر العامة وهم يخاطبونها بتعقل وابتسامة باهتة ممهورة برجاء:
- ألا تفهمون؟ ألا تتعقلون؟ ألا تتعلمون من تجارب الماضي البعيد والقريب؟
وهكذا فالكلام يجر معه كلاماً يبدأ الحديث عن تأمين مستقبل الأجيال ولقمة العيش والأمان والاستقرار، وعن ذات الإنسان وحقوقه والديمقراطية ومستلزماتها والسعادة والمواطنة الصمّاء، والنظر بجدية إلى نصف الكأس المليء والحفر في الصخر وأهمية المرونة والبراغماتية وكل شئ من هذا القبيل وذاك في حالة النسق العام.
عندما بدأ الترنّح يأخذ مساره، كان الصراخ عالياً، كانت النظرات حادة والحواس متحفزة، عندما حدث السقوط، كان سقوطاً مدوياً، كان لابد من إلقاء التركة الثقيلة كما قالوا في مزبلة التاريخ. هكذا كان تصورهم، إنه تاريخ أعرج يؤسفنا المضي فيه، الأمر لا يستحق المغامرة، هم يغامرون فلماذا يتحملون نيابةً عنهم كلفة المغامرات، فلسفة صاغها من قبلهم أصنام التاريخ منذ غابر العصور والأزمان، تناولتها قصص الشعوب وذكرهم علي الوردي وغيره في كتابه «وعاظ السلاطين»، هل كان الوردي وغيره يبالغون؟
- أبداً. إنه غيض من فيض... والخافي أعظم.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 4443 - الأربعاء 05 نوفمبر 2014م الموافق 12 محرم 1436هـ
خولة مطر
راىع جدا صديقتي ما كتبت شكرا لك نحن بحاجة لتحليل كهذا وتشريح لشريحة في المجتمع بدات تكبر وتتسع كالطفيليات