يقّدم كتاب «رأيت ذات فيلم» للإعلامي والكاتب والمخرج البحريني، محمد القاسمي، الصادر عن وزارة الثقافة بمملكة البحرين في العام الجاري (2014)، ويقع في 664 صفحة من الحجم الكبير، قراءة ومحاولة تفسير ما يشبه الأحلام التي تمتلئ بها عشرات الأفلام (100 فيلم سينمائي)، هي من روائع السينما العالمية. بمعنى آخر استدراج إلى المعنى الذي أشار إليه لوتشيو فيسكونتي، ذلك المتعلق بإعادة ترتيب الوعي. وعي المشاهد كمتلقٍّ ترتفع به تلك التفسيرات إلى مستوى يليق به.
وكما أن في الأحلام ما يشبه تفسيراً والتفاتة للواقع في صورة من الصور، في الأفلام ما يشبه تلك الأحلام التي تقرأ الواقع بعيداً عن القلم والمسطرة. بعيداً عن التفاصيل والرتابة التي لا تخلو منها.
حتى مقولة فيسكونتي (من مواليد 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 1906)، وتوفي في 17 مارس/ آذار 1976. مخرج مسرحي وسينمائي وأوبرا، إضافة إلى كتابة السيناريو. يشتهر بفيلمه «الفهد» 1963 و «الموت في البندقية» 1971): «السينما هي إعادة ترتيب الوعي»، تحتاج إلى مراجعة في هذا الصدد، حين نتجاوز المباشرة في المقولة؛ إذ لن يتسنى لها تحقيق تلك القيمة ما لم يكن المشاهد نفسه على استعداد لإعادة النظر في وعيه الثابت؛ أو الذي يريده ثابتاً؛ بقدرته على توليف المعاني عبر مخيلته؛ والنأي بها عن التكرار وتجنّب إعادة إنتاج التفاصيل. هي بذلك مع كل ما تقدم يمكنها أن تعيد ترتيب الوعي؛ ما يعني في نهاية المطاف امتداد إعادة ذلك الترتيب ليطول الحياة، كل الحياة.
القاسمي في كتابة لا يشتغل على التفسير باعتباره النهاية. هو التفسير المفتوح على البدايات أيضاً. لن يتفق اثنان على رؤية لفيلم واحد. تعدّد الرؤى هو الميّزة هنا. القراءات ضمن هذا المجال في تعدّدها هي الميّزة في الوقت نفسه. بالحواس ذاتها. بالقدرة على تجاوز التخيّل فيما تقدمه تلك الأفلام، هي الأخرى تقدم تفسيراً أحياناً ربما لم يخطر على بال صُنّاعه وأبطاله.
في المقدمة اللافتة للكتاب نقرأ منها الآتي: «كل فيلم هو عبارة عن مزيج من عدّة عناصر مترابطة منفصلة يتفاعل بعضها مع بعض لتصبح متماسكة. يقوم الكيميائي بفصل المادة المركّبة إلى عناصرها الأساسية؛ ليس لمجرد التعرّف على قائمة المكونات؛ بل هو يهدف إلى تحديد أهمية ووظيفة كل مكوّن من القائمة للمادة المركّبة. كيف يمكن للمزيج أن يصبح طعمه مثل طعم الفراولة؟ أو كيف يمكنه القضاء على الصَلَع؟ أو قتل الحشرات؟ أي خطأ بسيط من شأنه إفشال مهمة المزيج أياً كان نوعه...».
القدرة الفارقة على الذهاب والنفاذ إلى المعاني عبْر طبقات العمل - لكل عمل طبقات؛ تماماً كقشرة البصل، لا نتحدث هنا عن مدى صلابة أو هشاشة الطبقة، بقدر حديثنا عن مراحل تكوين وصناعة وكيمياء أيضاً تمثلها تلك الطبقات. مثل تلك القدرة تتيح فهماً ربما يتسلل أو يضيع. يضيع بفعل الانبهار أحياناً بالفيلم... بشخصياته... بالموسيقى كذلك... المؤثرات في مجموعها قد تشكّل بؤرة تشويش على التركيز، فيما الحواس تفوّت قيَماً يكتنز بها العمل، فتذوي بفعل ذلك الانبهار. قد يكون انبهاراً طائشاً أو طفولياً. مثل ذلك الطيش ومثل تلك الطفولة تفوّت علينا الكثير من استجماع القدرة على الرصد. تتسلل الحكمة وموهبة القبض على كل ذلك بفعل ذلك الطيش أحياناً، وأحياناً يحدث العكس.
يبدأ القاسمي بفيلم «12 رجلاً غاضباً»، الذي عرض في العام 1957، وقصته مقتبسة من مسرحية تلفزيونية لريجينالد روز. الفيلم «دورة مكثفة في دستور القضاء»، تدور أحداثه في غرفة هيئة المحلّفين، ومن خلال 12 رجلاً يبحثون مصير شاب متهم بقتل والده.
يوجز القاسمي جانباً من القيم والثيمة التي يحملها الفيلم بالقول: «الفيلم ينبثق فيه التوتر من صراع الشخصيات والحوار ولغة الجسد، وليس من مشاهد الأكشن».
في الفيلم انهماك بالأحداث لحظة بلحظة، وذلك الانهماك يكشف للمشاهد شخصية كل واحد منهم. العمل على مناقشة الأدلة وتقليبها. الشكوك المهيمنة. الارتجال في التقرير أحياناً. سلاح الجريمة (السكين)... تمثيل الأعضاء للجريمة. يقرر القاسمي «الأمر ليس حول الجريمة؛ بل حول إرسال شاب إلى الموت».
تحضر العنصرية أيضاً بين أحد أعضاء المحلّفين «أنتم تعرفون كيف يكذب هؤلاء الأشخاص. إن الكذب يولد فيهم. لا يعرفون أي شيء عن الحقيقة، ودعوني أخبركم... إنهم لا يحتاجون لأي سبب مقنع لقتل شخص ما، فإما...».
لعبة الكشف عن الحقيقة هي اللعبة الكبرى في الفيلم. التعريف الغامض لها. العصيّ على البشر في تفاوت إدراكهم لمصائر تتوقف عليها؛ صغيرة أو كبيرة كانت. ثمة من يرتجلها كارتجاله فتح عينيه أول ما يستيقظ في التقاطه لأول الأشياء والوجوه على ظاهرها.
ربما يختصر هنري فوندا جانباً من ذلك في عمق الحوار وذروته «... أنا لا أعرف أبداً ما هي الحقيقة، ولا أتصور أن أحداً سيعرفها حقاً. تسعة منا يشعرون الآن أن المتهم بريء، ولكننا فقط نراهن على الاحتمالات، وقد نكون مخطئين...».
رحلة على طريق الذئب
«حول شميت» فيلم من بطولة جاك نيكلسون، وتدور أحداثه حول رجل في السادسة والستين من عمره «يعيش لحظات حزينة بسبب الموت المفاجئ لزوجته التي عاش معها أكثر من 40 عاماً».
رعاية يتيم في تنزانيا، وبتشجيع من مؤسسة خيرية تتم مراسلات بينه وبين الطفل تحمل أخباراً خاصة مع مبلغ 22 دولاراً شهرياً لإعانة الطفل. رؤية للجانب الآخر من العالم؛ حيث الغضب والخوف والعزلة. شيء من ذلك يعيشه بطل الفيلم «وارن» (العزلة)، يبدو تلاشيها مع ذلك الاندماج والعاطفة التي تبدو عن بعد تجمعه باليتيم التنزاني «إندوغو». استدعاء لمشاعره المعطلة لسنوات عبر تلك المراسلات.
شيء من الصدمة يجد المشاهد نفسه أمامها باعتراف «وارن» في إحدى رسائله بكرهه زوجته المسنّة؛ وقتها لاتزال حية. كأن أداؤه للشخصية فيه تجليات لحالات سن اليأس لدى الإنسان.
خليط من الكوميديا السوداء عمد إليه المخرج أليكاسندر باين؛ مع قليل من التراجيديا... الجنون... السلوكيات الغريبة؛ لنخرج بكمّ من العواطف التي تنكشف. نصطف مع بعضها... نكون محايدين لبعض آخر، وشيء من الرفض لبعض ثالث.
أنا كارنينا
رواية الروسي ليو تولستوي «أنا كارنينا»، قصة البحث عن الشهرة، وتلازمها مع سوء السمعة. الأدب العالمي لعب على تلك الثنائية. الاقتدار يتجلّى في الرواية المذكورة. في تخلي كارنينا عن طفلها الوحيد بكل تجرّد من العاطفة. لا حديث في المجتمع سواها.
علاقتها مع الكونت فرونسكي، والسعادة المؤقتة التي لا يتم اكتشافها في لقطة الفيلم. محاولة الحياة في مجتمع مزيف ربما تكون من أصعب الأمور وأكثرها تعقيداً. يقول القاسمي في تناوله للفيلم، إن العمل «ضخم وجريء برؤية إبداعية لم يسبق تجربتها من قبل. كثير من النقاد وصفوا الفيلم بالروعة المفرطة، وأنا أتساءل، كيف لأمر كهذا أن يقلّل من قيمة الفيلم؟».
يختم القاسمي بحوار مؤثر، تقول كارنينا لفرونسكي: «إن كنت تفكّر بي، ستعيد إليَّ الأمان، وهو يجيبها قائلاً: «لا يمكن أن يكون هناك أمان بالنسبة لنا، فقط التعاسة، والسعادة العظيمة».
صمت الحملان
في «صمت الحملان» لأنتوني هوبكنز وجودي فوستر، تناول معقّد للنفس البشرية في توغّلها اللانهائي أحياناً في العنف. العنف باعتباره أسلوب حياة ومتعة، وطريقة عيش. لم يتم تناول تلك التركيبة المعقدة من ندرة الصراع مع العنف في درجاته القصوى في النفس الإنسانية كما فعل «صمت الحملان».
جمهور الفيلم سيكون للخائفين. الخائفون لن ينتهوا من العالم. في الوقت نفسه، يدرّب الفيلم مشاهده؛ أو بعض مشاهديه، كي نكون أكثر تحديداً، على إعادة النظر في الضئيل والبسيط من العنف المخبوء في نفوسهم. الخروج من تلك العدمية وممارستها، بمحاولة البحث عن طرق تحقق النشوة واللذة والانسجام مع اللامبالاة.
في الفيلم نفسه ثنائية الخير والشر. الخير في بعض مشاهده لا يكون صريحاً. يكون مخبوءاً في نموذج من ممارسي ذلك العنف الذي قدّر له أن يكون رهن السجن، وبيده مفاتيح غامضة للوقوف على سلسلة الجرائم وسلخ الجلود وأكل اللحم البشري.
ثمة غموض في الفيلم يمكن تلمّس وضوح منه. ثمة وضوح غامض في الوقت نفسه. لا يترك السيناريو، ولا المخرج فرصة للوقوف على تكهّن محدّد. في الوقوف عليه تنكشف لعبة السرد، وينكشف ذلك التلاعب على ثنائية الخير والشر، وثنائية العلاقات. يفتر الخوف. لا يراد للخوف أن يفتر.
في الفيلم درْبة ستعمّق الوعي مع مرور الوقت في التعاطي مع تلك الحالة المخرِّبة لطمأنينة البشر (الخوف)، يمكن بطريقة ما، بعلاقات ونظر ما الهيمنة عليه؛ بل واستثماره في كثير من الأحيان لتكريس وتعميق الطمأنينة.
قائمة التفسير
تتبّع القاسمي من خلال كتابه عدداً من الأفلام السينمائية هي كالآتي: عصر البراءة، أماديوس، الشقّة، آرغو، الفنان، الكفّارة، أوغست راش، الصحوات، عقل جميل، أن تصبحي جين، قائمة الدلو، كازابلانكا، شيكاغو، دجاج من برقوق، شوكولاته، الجوقة، قوانين منزل شراب التفاح، الرجل السندريلا، اللون البنفسجي، الحفلة الموسيقية، اعترافات، الكونت دي مونت كريستو، الراحلون، الأحفاد، جانغو بلا قيود، الشك، توصيل الآنسة ديزي، إيلّا المسحورة، إيما، لحظات خالدة، صاخب جداً وقريب للغاية، بعيداً عن الجنة، العثور على نيفرلاند، فورست غامب، ذهب مع الريح، وداعاً، أيها الأطفال، هاري بوتر ومقدسات الموت - الجزء الثاني، المساعدة، الآخرة، هيتشكوك، قلعة هاول المتحركة، هيوغو، الساحر، المستحيل، في عالم أفضل، الأوغاد المغمورون، المنبوذون، حدث ذات ليلة، جين إير، عيون جوليا، خطاب الملك، كون تيكي، كريمر ضد كريمر، الحياة الوردية، سيدات في الخزامى، أسطورة 1900، البؤساء، الحياة جميلة، حياة باي، نساء جميلات، سحر بيل آيل، الرجل الذي لم يكن هناك، غرفة مارفن، فتاة المليون دولار، ميزيري، الآنسة بوتر، ضربة قمر، السيدة مينيفر، نيكولاس نيكيلبي، لا وطن للمسنّين، أوليفر تويست، على البحيرة الذهبية، مقاعد الأوركسترا، خارج إفريقيا، متاهة بان، شبح الأوبرا، طائرات وقطارات وسيارات، بونيو، كبرياء وتحامل، راتاتُووي، ريبيكا، غرفة مع منظر، روبي سباركس، سيبيسكت، الحديقة السرية، الحياة السرية للنحل، عقل وعاطفة، شادولاندز، الخلاص من شاوشانك، تألّق، الجانب الإيجابي المشرق، العازف المنفرد، رماد نجمة، أغرب من الخيال، غريبان على متن القطار، سويني تود - الحلّاق الشرّير في شارع فليت، السيد ريبلي الموهوب، عرض ترومان، مياه للفيَلة، حصان الحرب، وفيكتوريا الشابة.
يتيح الكتاب عبر قراءة القاسمي لمشَاهِدِ الأفلام تلك، دراية تتجاوز النظر المباشر، والعلاقة بين الحدقة والشاشة، وما يمكن التقاطه بالمباشر من الحوار واللقطة وزوايا الكاميرا في كثير من الأحيان. إنه ذهاب إلى إعادة تركيب وصياغة الحلم/ الأحلام التي تكتنز بها مشاهد 100 فيلم، هي من روائع السينما العالمية، في محاولة، ضمن محاولات كثيرة، لتربية مشاهد؛ أو لنقل، تدريبه على محاولة اكتشاف أحلامه الخاصة هو أيضاً، من خلال الأحلام المكتنزة في الكثير من قصص الحياة؛ ليس باعتبارها قصصاً فحسب؛ وليس باعتبارها تسلية، ومحاولة لنفي الضجر؛ بل باعتبارها تأسيساً لقدرة الوعي على تجاوز نفسه لما هو أشمل وأعمق وأكبر.
وبالعودة إلى مقولة فيسكونتي التي بدأت بها هذه المراجعة: «السينما هي إعادة ترتيب الوعي»، يتأسس مشاهد، عبر قراءات ومحاولة تفسير عالم مبهر كالسينما، تتاخم العميق والضروري من التفاصيل التي يتم تمريرها عبر الشاشة الساحرة. محمد القاسمي نجح في مساحة كبيرة من الكتاب.
في جزء من العالم لا تشكّل له صناعة السينما كبير هم، فيه تفويت لمثل ذلك التأسيس للوعي؛ لكن التصدّي لمهمّة كتلك عبر تقريب تلك الحاجة، فيه الكثير من الأمل والتحديات أيضاً. الأمل بانبثاق وعي من أصحاب رؤوس الأموال لقيام مثل تلك الصناعة يوماً ما، والتحديات التي تواجه المتصدّين لمثل تلك التناولات وما ينتج عنها من أثر.
العدد 4438 - الجمعة 31 أكتوبر 2014م الموافق 07 محرم 1436هـ
الله يوفقك
فعلا مجهود قوي اخي العزيز محمد طالما كانت جهودك وقراءاتك
ونظرتك النقدية مميزة وجميله.. لا عجب وقد نشأت في بيئة ثقافية ابداعية منذ الطفواة.. كانت اهتماماتك فنية وانتاجية محترفه ماشاء الله.. والحمدلله على فضله ونعمه.. اسأل الله ان يشملك بتوفيقه وفضله ويتم عليك نعمته ويريك ويلهمك الصواب في كل ما تفعل.. وييسر لك سبل ااخيرات في الدين والدنيا والاخرة.. ويالتوفيق حمود
شكراً :)
شكراً جزيلاً ابنة عمتي الغالية :)