أسبوع دموي وقاسٍ، حصد العشرات من البشر، وعلى جبهات مختلفة. الجديد هو تصاعد العمليات الإرهابية، في شبه جزيرة سيناء، وفي طرابلس شمال لبنان. أما ما يجري في سورية والعراق وليبيا واليمن، من عمليات إرهابية، ومن مواجهات، بين الجيش والمتطرفين، فقد صار معتاداً ومألوفاً، لفرط تكراره.
في معركة عين العرب (كوباني)، هناك ما هو أكثر من ملهاة إغريقية. فالجيش الأميركي، اختزل الحرب على الإرهاب في سورية، بهذه المدينة، ولم تنفذ طائراته العملاقة، عمليات عسكرية، في أي منطقة أخرى، سوى غارتين خجولتين، في دير الزور، في الأسبوع الأول من بدء العمليات.
وقد أصبح سير العمليات في “عين العرب”، مؤخراً مثار سخرية من قبل بعض الصحف الأميركية، خصوصاً بعد استيلاء تنظيم “داعش” على مساعدات ألقت بها الطائرات الأميركية لدعم المقاتلين الأكراد. ومن جهة أخرى، فإن تركيا، العضو بحلف الناتو، ترفض التعاون في الحرب ضد “داعش”، وتواصل تعاملها مع هذا التنظيم. وينتشر رجاله علناً، في العاصمة التركية، أنقرة.
الإدارة الأميركية، تبدو عاجزة عن منع تركيا، من التعامل مع تنظيم “داعش”، والحيلولة دون تصدير النفط، من قبله، عبر الحدود التركية. ولاشك أن هذا العجز ستكون له انعكاساته المباشرة، في الحرب على الإرهاب في عين العرب، وبقية المناطق التي يحتلها تنظيم “داعش”، في العراق وسورية.
يخشى الأتراك من تركّز الحرب على الإرهاب، في عين العرب الكردية، والتي لا تشكل سوى حيز محدود جداً من المناطق الواسعة التي يسيطر عليها تنظيم “داعش”، وبشكل خاص في محافظة الأنبار العراقية، التي تحتل ما يقرب من الخمسة وعشرين في المئة من مساحة العراق.
إن هذا التركيز، من وجهة النظر التركية، هو تحفيز للنزعات الانفصالية الكردية، والتي تشكل خطراً مؤكداً، على وحدة أراضيها. ولذلك اتخذوا موقفاً حاسماً، تجاه قدوم أكراد من الأراضي التركية، لنصرة أشقائهم في سورية. وقننوا أعداد القادمين من أكراد العراق، إلى عين العرب، حيث يذكر أن من سمح لهم من أكراد أربيل، بالقدوم إلى عين العرب، لم يتجاوز تعدادهم المئتين .
والنتيجة أن الموقف التركي، وغياب الاستراتيجية العربية الموحدة لمناهضة الإرهاب، والتي تضع المصالح القومية في سلم أولوياتها، سوف يعطل من هزيمة “داعش”، ويطيل أمد الحرب، وتصبح المواجهة عَدَميةً، طالما استمرت الحكومة التركية في مواقفها.
الحل العربي، ينبغي أن يركّز على وحدة الأراضي السورية، وأن لا تكون معركة عين العرب، أداة لتعزيز المشروع الانفصالي الكردي، هذا المشروع الذي اقتصر تنفيذه، حتى الآن على الأقطار العربية، واستثني منه أكراد إيران وتركيا، بدعم من السياسات الغربية، وكأن حق تقرير المصير للكرد، لا ينبغي أن يشمل سوى الأكراد العرب.
وهكذا نجد أنفسنا في معركة “عين العرب”، بين أمرين أحلاهما مر: إما ترك تنظيم “داعش”، يمارس عبثه وتخريبه، وإبادته بحق البشر، أو تسهيل مهمة نشوء كيان كردي، مستقل عن الأراضي السورية، يكون استمراراً لما تحقق في العراق، من انفصال الشمال عن المركز، على كل الصعد، وبقائه شكلياً، ضمن مسمى الدولة العراقية .
الأوضاع في لبنان، هي الأخرى حزينة وكئيبة. فقد تصاعدت المواجهات هذا الأسبوع، مع المسلحين في مدينة طرابلس، لتضيف إلى المشكلة المتفاقمة في عرسال. وإذا ما استمرت المهاترات الدائرة بين مختلف المكونات السياسية اللبنانية، فإن ذلك سيسهم بكل تأكيد، في استمرار المواجهات، وسيعطّل من إمكانية تشكيل جبهة لبنانية قوية لمساندة المؤسسة العسكرية، في المواجهة المستمرة ضد الإرهاب، في عرسال وطرابلس.
الصورة الحزينة الأخرى، هي ما جرى هذا الأسبوع، من تفجير ضخم في سيناء، ذهب ضحيته، واحد وثلاثون شهيداً. ولاتزال المواجهات مستمرة بين الجيش المصري، وبين قوى الإرهاب، في عدد من المدن المصرية. وكان إعلان الطوارئ مؤخراً في سيناء، واجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بقيادة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، هو إعلان صريح عن حدة الأزمة .
يبدو أن الحلول المنفردة، لمواجهة الإرهاب، ستظل عاجزةً عن إلحاق الهزيمة النهائية به. والمشاريع الدولية المعلنة لمواجهة الإرهاب، تتعامل معه جزئياً وانتقائياً، ولا تنطلق من استراتيجية كبرى وشاملة في هذه الحرب.
حان الوقت للوقوف ملياً، تجاه السياسات التي مارسها العرب، تجاه بعضهم بعضاً، منذ انطلق ما عُرف بالربيع العربي. فقد أسهمت هذه السياسات، في مصادرة الهويات الوطنية، وألغت كيانات سياسية عربية، وعطلت من عمليات التنمية والبناء في الوطن العربي. ولم تتحقق الديمقراطية المنشودة، في أي من البلدان التي شهدت الحراك السياسي والشعبي، قبل ثلاثة أعوام.
لابد من تحقيق انقلاب في الفكر السياسي العربي، انقلاب يعمل على صيانة الاستقلال والسيادة الوطنية، للبلدان العربية. ويبنى على ميثاق شرف، بعدم جواز التدخل، من قبل أي نظام عربي في شئون البلد الآخر.
لقد عاش الأوروبيون في صراعات مريرة، استمرت مئات السنين، لم يتمكن خلالها أي منهم من إلغاء الآخر. واكتشفوا من خلال التجربة، أن أهدافهم أقرب للتحقق، حين ينجزون اتفاقاً تاريخياً، يؤمن السيادة والاستقلال، لبلدانهم. فكان أن وقّعوا اتفاقية “ويستفاليا”، في القرن السابع عشر، التي أسست للنظام الدولي القائم حتى يومنا هذا. وعماد هذه الاتفاقية، هو الاعتراف بسيادة الدول وعدم جواز التدخل في شئونها الداخلية.
كان من المفترض، أن تكون هيئة الأمم المتحدة هي الراعي والحارس لهذه المبادئ. أما وأنها عجزت عن ذلك، بسبب هيمنة غطرسة القوة، فقد آن للعرب أن يعيدوا الاعتبار لهذه المبادئ. ولن تكون هذه الخطوة عملية وفاعلة، إلا إذا تعززت برؤية استراتيجية عربية، لمواجهة الإرهاب، وبتشكيل جبهة عربية موحدة، تقود بشمولية هذه المواجهة، ليس فقط في ساحات المواجهة، ولكن في جذورها الفكرية، ومنطلقاتها الأيديولوجية، وتجفيف منابعها، وعلى كل الصعد. فهل آن لهذا الوعي أن يأخذ مكانه، أم أن علينا أن ننتظر المزيد من التشظي والضياع؟
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4437 - الخميس 30 أكتوبر 2014م الموافق 06 محرم 1436هـ