العدد 4436 - الأربعاء 29 أكتوبر 2014م الموافق 05 محرم 1436هـ

سنوات الرحمة تحصد أهل البحرين

“الإرسالية” في قفص الاتهام

بَخلِّي الحي ما يشيل الميت» هي من العبارات التي يستخدمها أهل البحرين للتهديد وللتعبير عن شدة غضبهم، وتعني أنهم إذا غضبوا سيعجز الأحياء عن دفن الأموات. بالطبع هي عبارة ذات معنى مجازي لا تتفق مع طبيعة البحرينيين الهادئة والمسالمة.

وقد يكون أصل هذا التعبير مستوحى من سنوات الرحمة التي عصفت في البحرين في بدايات القرن الماضي والتي كثر فيها الموتى من جراء أمراض الطاعون، والجدري، والكوليرا، والأنفلونزا الأسبانية.

تستعرض «الوسط الطبي»، في هذا العدد وضمن مشروعها التوثيقي، الكوراث الوبائية التي اجتاحت البحرين والتي أطلق عليها «سنة الرحمة»، وبعد الرصد تبين أن سنة الرحمة هي سنوات بدأت في العام 1903 وانتهت في العام 1907، وعادت مجدداً في العام 1924.

السنوات مرت بقسوة على أهل البحرين، خصوصاً مع عدم توافر الخدمات الصحية الحكومية، ولعلّ المشفى الوحيد الذي كان يقدم الخدمات الطبية الحديثة كان مستشفى الإرسالية الأمريكية الذي وثّق نحو 9690 حالة وفاة.

الوباء يجتاح

في العام 1903 تم توثيق أول وباء في تاريخ البحرين الحديث، إذ يقول مستشفى الإرسالية الأمريكية على موقعه إن الأمطار التي هطلت في مارس/ آذار تسببت في زيادة حالات الحمى والالتهاب الرئوي والدفتيريا وبين أمراض أخرى وانتشار مرض الجدري، ثم مرض الطاعون الدملي. وتشير الوثائق إلى أن معظم المصابين يموتون خلال 48 ساعة من إصابتهم بالمرض. ومع البحث والتقصي وجدنا تاريخاً آخر لظهور المرض؛ إذ تقول المبشرة إميلي زويمر العاملة في الإرسالية إنه مع بدء القيظ هذا العام (1903)، وازدياد الحرارة ازدياداً ملحوظاً، وتحديدًا في شهر مايو/ أيار، انتشر في البحرين مرض الطاعون.

ويفصّل الدكتور خليل إبراهيم رجب في كتابه المهم «تاريخ الخدمات الصحية في البحرين» ما حدث قائلاً: «المرحلة الثالثة (1902-1925)... لقد كانت بداية هذه الفترة بالغة القسوة على البحرين وعلى الأطباء والمبشرين الذين جاؤوا للعمل بها، إذ بدأت بوباء طاعون دملي بقي في الهند لمدة 7 سنوات سابقة قبيل انتقاله للبحرين في شهر مايو، وانتهى في أواخر يونيو من عام 1903م، وخلال هذين الشهرين فقط تشير سجلات مستشفى الإرسالية إلى حدوث 600 إصابة بالطاعون و301 حالة وفاة».

وتشير وثائق الإرسالية إلى أن عويل الثكالى كان يسمع كل ليلة من بيوت المنامة، ودفنت العديد من الجنائز في بشكل سريع في المقبرة التي تقع خلف المستشفى. وقال المستشفى: «دمرت أسر بأكملها من هذا المرض».

ولفتت وثائق المستشفى إلى أن هناك من اتهمهم بنشر المرض في البحرين، خصوصاً أن المستشفى كان حديث التواجد في البحرين. وقالت: «بعد وقت قصير من اندلاع الطاعون بعض أعدائنا بذلوا قصارى جهدهم لنشر أخبار تفيد بأن المسيحيين قد سمموا الآبار». وتكشف المبشرة زويمر على ذلك بانتشار شائعة مفادها أن أحد الأطباء نشر مصلاً قاتلاً في المنامة ليقتل جميع المسلمين ويُبقي على المسيحيين فقط.

وتلفت زويمر إلى أنه على رغم هذه الشائعات، إلا أن زوار المستشفى ازدادوا في تحدٍ واضح للمعارضين لوجود الإرسالية. وتوضح: «وعند انتشار المرض في مدينتي المنامة والمحرق، أصاب الناس رعب كبير. فجأة، ازدادعدد زوار المستوصف حتى امتلأ. كما لم يكن هناك موطئ قدم في مستوصف النساء، الذي كان في السابق لا تزوره سوى المغامرات والزائرات النادرات، اللواتي كن يجازفن بالمجيء إليه».

الكوليرا تهاجم

لم توقف الأوبئة زحفها للبحرين، ففي شهر أبريل/ نيسان هاجم وباء الكوليرا القادم من جنوب العراق البحرين ليحصد أرواح 2000 شخص.

وبالرجوع لكتاب الدكتور خليل رجب في وصف مجريات وباء العام 1904، يقول: «أصيبت البحرين في السنة التالية 1904م بوباء كوليرا، بدأ هذه المرة في جنوب العراق ثم انتقل إلى إيران ومنها إلى موانئ الخليج وبالذات إلى البحرين في مدينتي المنامة والمحرق. وقد بدأ هذا الوباء في شهر أبريل واستمر إلى سبتمبر، ولسرعة انتشار الكوليرا في البحرين في تلك السنة أعلنت حالة استنفار بين العاملين في المستشفى وصار الكثير منهم يعمل ليلاً ونهاراً تحت ضغط شديد، إذ بلغ عدد المصابين 3000 حالة، مات منهم 2000 شخص، وأطلق الناس عليها اسم “سنة الرحمة”، ولم تلبث أن حدثت أوبئة مماثلة في موانئ الخليج للطاعون والكوليرا. بالمناسبة سنة الرحمة تعبير محلي شائع وعلى ما يبدو مستعملاً في الإحساء أيضاً وهو كناية إما عن الوباء الذي حدث في ذلك العام، أو للوباء الأخير في منتصف العشرينيات من القرن الماضي».

الطاعون يعود مجدداً

في العام 1905 عاد مرض الطاعون مجدداً قادماً من الهند. وجاء في كتاب تاريخ الخدمات الصحية في البحرين: «في عام 1905م رجع الطاعون للبحرين، بلغت فيه عدد الحالات بين المصابين الذين أدخلوا للمستشفى 400 حالة تصاحبها نسبة عالية من الوفيات. وفي عام 1907م بين شهر أبريل ويوليو حلَّ في البحرين وباء طاعون كارثي بلغ عدد المصابين فيه 3121 شخص، مات منهم حوالي 1889م”.

وينقل تقرير الوكالة السياسية البريطانية في البحرين أنه بمجرد الإعلان رسمياً عن الوباء تم البدء في اتخاذ إجراءات صارمة للحد من انتشاره، حيث جرى الالتزام بالحجر الصحي بجميع موانئ الخليج المقابلة للبحرين، وفي البحرين ذاتها، تم التفتيش على جميع المسافرين قبل صعودهم لمتن السفن. وكان أول عزل صحي يحدث في تاريخ البحرين الحديث على ما يبدو.

زائر ثقيل في 1911م

في بداية العام 1911 جاء الطاعون للمرة الرابعة كزائر ثقيل على أهل البحرين. وينقل طبيب الإرسالية الأمريكية في البحرين ستانلي ميلري الذي كان يعمل في المستشفى آنذاك، أن الطاعون رجع بعدما اختفى بضع سنوات، إلى البحرين، في بداية العام 1911 ومع عودته، عادت الجنائز إلى الظهور، وانتشر الحزن في كل مكان.

وقال: «إن جميع ما حدث في الفترة الأخيرة، لاتزال صورته أمامي. فقد كانت نتائج مرض الطاعون موت آلاف البشر، ومن جميع الطبقات والأجناس. ففي كل يوم، تتوجه جنائز متلاحقة إلى المقابر. ومع ازدياد عدد الموتى بسبب الطاعون، راحت شعائر ومراسم الجنائز، التي تقام للموتى، عادة تقل شيئًا فشيئًا». وأوضح: «عاد الموتى لا يدفنون كالسابق، فبدلاً من حملهم إلى المقبرة على نعوش جيدة، وفي موكب جليل، تكفن فيه الجثة بكفن معقول، خفت هذه المراسم، بسبب الأعداد الهائلة من الموتى. ومع بداية كل يوم جديد، كان الحزن والموت يمضيان معًا في الطرقات والبيوت، بلا توقف ولا رحمة. وأكثر من ذلك، أصبح الناس، مع الوقت، لا يجدون وقتًا كافيًا لحفر قبور الموتى بعمق كاف».

وتحدث عن أعداد القتلى، فقال: «حتى الآن، فإن ما يقارب 500 شخص، ماتوا بسبب الطاعون. ومع أن هذا العدد ليس كبيرًا نسبيًا، إلا أنه عدد ضخم جدًا، بالنسبة إلى عدد سكان البحرين». وأضاف: «قد رأيت بنفسي موت سبعين حالة تقريبًا، كان من بينهم شيوخ من العرب، وتجار يهود، وتجار فرس، وتجار لؤلؤ هنود، علاوة على حرفيين وحماليين، وكلهم دفعوا ضريبة الطاعون، الذي لم يفرق بين الناس إطلاقًا».

وعلق قائلاً: «على الرغم من كل هذه الضحايا، إلا أن أيًا من المسيحيين الموجودين في البحرين، لم يصب بهذا المرض، حتى الآن. ولعل هذا يرجع، في الدرجة الأولى، إلى أن معظمهم قد أخذوا لقاحات ضد المرض، قبل فترة».

«الأسبانية» تصل البحرين

تصنف الأنفلونزا الأسبانية التي اجتاحت العالم في الفترة بين 1918 و1919 بأنها واحدة من من أعنف الأوبئة في التاريخ، وتسببت بمقتل عشرات الملايين من البشر - أكثر من عدد الذين لقوا حتفهم في الحرب العالمية الأولى. وتشير التقادير إلى أنها أصابت ثلث سكان العالم.

ومن شدة هول هذا الوباء تركت الجثث في المنازل أياماً عدة قبل دفنها، بحسب المصادر الطبية التي وثقت تاريخ الوباء.

البحرين لم تسلم من الأنفلونزا الأسبانية، فقد وصلت لشواطئ الجزيرة في العام 1919م مع نهاية الحرب العالمية الأولى وتسبب بوفاة 1500 حالة بحسب سجلات الإرسالية الأمريكية. وقد أثار الوباء حالة استنفار بين جميع طواقم مستشفى الإرسالية.

حصد 4 آلاف روح ببطء

للمرة الخامسة والأخيرة هاجم الطاعون البحرين في العام 1924م. وينقل أحد التقارير البريطانية أن الوباء قدم على الأرجح من دبي وانتشر بشدة خلال الأشهر الأولى من العام 1924.

وتشير التقديرات إلى حدوث ما يزيد على 4 آلاف حالة وفاة بسبب الوباء، وهو رقم يتفق مع ما وثقته وثائق مستشفى الإرسالية التي تقول إن 4000-5000 مواطن قد توفي بسبب الوباء.

وقال كاتب التقرير البريطاني إن المرض كان يتفشى بين السكان ببطء، وكان من الممكن الحد من شراسة المرض، ولكن السكان رفضوا لأسباب دينية التعاون في تطبيق الإجراءات الضرورية - بحسب التقرير، رغم أن حاكم البحرين كان مستعداً لتوفير مستشفى يفصل بين الجنسين، وتقديم عون مالي للأسر المحجوزة في المستشفى.

وبيّن كاتب التقرير أن السلطات قررت اللجوء إلى التطعيم المضاد للطاعون، وأوضح: «لكن كان من الصعوبة قبول السكان أخذ التطعيم إلى أن وصل انتشار الطاعون إلى معدلات خطيرة، وعندها أصبح التطعيم غير مجد كأداة وقائية، وقمنا بتوزيع 737 جرعة تطعيم في المستشفى، إضافة إلى تطعيم 3141 خارج المستشفى، والفضل في هذه الجهود يعود إلى مساعد الجراح الطبيب هولمز الذي بذل مساعي جادة خلال تلك الفترة».

بعد هذا العام بدأت الخدمات الطبية في البحرين في النمو والتطور وأسست الحكومة عيادة المحرق أو «مستوصف المحرق» الذي افتتح في العام 1925 تولى فيه الطبيب الهندي «بندركار» استقبال مرضاه ومعالجتهم ليلاً على ضوء مصباح الكيروسين (الفنر).

ومع تنامي الخدمات الطبية ابتعد شبح الأوبئة عن البحرين، وتعمل وزارة الصحة حالياً على التدرب على صد ومكافحة فيروس «إيبولا» إذا ما وصل - لا قدر الله - لأراضي المملكة.

العدد 4436 - الأربعاء 29 أكتوبر 2014م الموافق 05 محرم 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً