تُظهِر بعض يوميات المستشار الخاص ومستشار الشئون المالية لحكومة البحرين، تشارلز بلجريف، للفترة ما بين 1926 و 1957، أن آخرها كُتب في 18 أبريل/ نيسان 1957، وهو اليوم الذي انتهت فيه مهمته مغادراً إلى بلده (المملكة المتحدة).
تم اختيار يوميات قبل عام من مغادرته البلاد (1956)، وصولاً إلى 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 1956.
تتوزّع اليوميات من دون انتظام، وتحوي تفاصيل شديدة الحساسية من جهة، ولغة ومفردات كثيراً ما تتكرَّر، ولا تخلو من كثير من التعالي، آثرنا أن نشير إلى بعضها بـ (...) جنباً إلى جنب ذكر بعض الأسماء والشخصيات التي تتطرّق إليها بلغة تبدو غير لائقة.
اليوميات التي بين أيدينا، ضمن اختيار قبل عام من انتهاء مهمة بلجريف (1957)، تتناول موضوعات وشئوناً متنوعة، ارتأينا اختيار تلك التي تطرَّقت إلى اجتماعات مناقشة مسوّدة قانون الصحافة، والعلاقة القلقة والصدامية أحياناً بين المستشار وهيئة الاتحاد الوطني. بين اليوميات تلك، لا يكفّ بلجريف عن الشكوى والتبرُّم في كثير منها. نادراً ما تجده في اليوميات التي تبدأ من العام 1926، وصولاً إلى العام 1957، يُثني على شخصية أو وجيه أو عالم دين أو قاضٍ؛ ناهيك عن المواطنين العاديين إلا في حدود لا تخلو من المكابرة، وأحياناً على مضض.
لابد من إشارة تتعلق بمنهج التعاطي مع بعض اليوميات تلك؛ إذ لم يتم اعتماد الترتيب الزمني لها، بقدر اعتماد أهمية الموضوع والحدث الذي يتناوله بلجريف؛ إذ ثمة موضوعات وأحداث ليست على ذلك القدْر من الأهمية، على الأقل مقارنة بسواها، تلك المتعلقة بتفاصيل ترتبط بالناس والسياسات والقرارات، وأيضاً المنعطفات والتحولات التي عاشتها البلاد.
إشارة أخرى لابد منها تتعلق بتغيير بعض المفردات التي ظهرت بها ترجمة كتاب «يوميات بلجريف 1926-1957»، الذي أصدره مركز البحرين لحقوق الإنسان، للركاكة والضعف الذي انتابها في بعض المواضع، ولم يمسّ ذلك التغيير معنى وفحوى اليوميات التي تم تناولها، وهي بالمناسبة قليلة، لدواعٍ تلمّستْ تقريب الفهم والمعنى إلى القرّاء قدر المستطاع.
قانون الصحافة
الحراك الذي تولَّد عن قيام ونشوء صحف في فترة مبكرة من تاريخ البحرين فتحت عيون المشتغلين في هذا المجال على ضرورة استصدار قانون ينظِّم المهنة ويضبط الأداء والحقوق لتقوم بدورها بما يتناسب وتلك المرحلة.
بدأت إرهاصات المطالبة بالقانون المذكور في أربعينيات القرن الماضي؛ لكنه صار ملحّاً أكثر مع تكرار إيقاف عدد من الصحف، والفسْحة النسبية التي توافرت بإلغاء الرقابة؛ وتزامن ذلك مع حراك هيئة الاتحاد الوطني التي سبّبت صداعاً للحكومة والمستشار بلجريف؛ فكان العام 1956، عام مناقشات وتداولات مستمرة من أجل إقرار القانون الذي تقدّمت به «الحكومة» وقتها.
في يوم الأربعاء (30 مارس 1956)، كتب بلجريف في يومياته: «كان لدينا - من طرفنا فقط - اجتماع آخر في الرفاع وذلك للتفكير فيما سنفعله يوم الأحد القادم (ستأتي الإشارة إلى الاجتماع مباشرة بعد هذه الفقرة، ولكن في شهر مايو؛ أي بعد شهرين). ناقشنا ما يسمَّى بمسوَّدة قانون الصحافة التي قدّمتها اللجنة. إنه أمر مضحك حقاً. قطع من قوانين، وقطع من قوانين أخرى أعدّها (...) الذي يعشق الادِّعاء خطأ أنه متمكِّن من كتابة القوانين (...). تناقشوا حول الإذاعة أيضاً واعترضوا على صفقة جيدة في طريقها إلى التحقيق. إنه المجلس الذي كان من الواضح - بل أقول من الصحيح في الوقت الحاضر – يريد أن يجعل صوته مسموعاً».
بعد شهرين من ذلك الاجتماع، الذي صادف يوم الأحد، تبعاً للإشارة في الفقرة السابقة، يروي بلجريف في يوم 20 مايو/ أيار 1956، الآتي: «في الرفاع من الساعة 9:15 حتى 1:15 لحضور اجتماع آخر مع اللجنة (النص لا يذكر اسمها)، جلبوا محمد الشيراوي الذي فعل هنا ما يفعله في لجنة العمل، فقام بحجب الفرص لإنهاء أية نقطة. الصباح أُهدر كليّاً بالمجادلات الغبية والمشاجرة فيما بين اللجنة، اعتراضهم الحقيقي هو ضد قانون الصحافة الذي قدّمناه عندما ألغيت الرقابة، يظنون بأنهم لابد وأن يكونوا خارج القانون، كما هو في منشوراتهم (...) إنني أتوقع أشهراً من مثل هذا النوع من الجدال».
هيئة الإذاعة البريطانية والإضراب
وليس بعيداً عن حرية الصحافة، والتعاطي مع المراسلين في تلك الفترة، وخصوصاً مراسل هيئة الإذاعة البريطانية، يتضح حجم الضيق من طبيعة ونوعية الرسائل التي تبثها الإذاعة عن البحرين فيما يتعلق بالإضرابات، أو ما يرتبط بها من تحولات لم يخلُ منها المجتمع البحريني.
في 5 يونيو/ حزيران 1956، يكتب بلجريف عن رسالة تم إرسالها إلى «الوكالة السياسية» تعترض على (...) «وعلى سلوك مراسل تلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية هنا الذي يتحدث عنه الكل بأنه كان يوقف الناس في الشوارع ويسألهم عن آرائهم في (...) وعني أنا والحكومة واللجنة (لعل بلجريف يعني هنا الهيئة الوطنية حيث إنه ذكر كلمة Committee وهي تعني هيئة كما تعني لجنة). (...) جاء القاضي هاينز في الساعة السادسة مع تقريره حول ما كشفه عن المجلس. الخلاصة بأنه لا يوجد هناك ما يدعو للمحاكمة. ناقشناها كلها بالتفصيل (...) إشاعات عن إضرابات تبثها الهيئة (Committee) لخلق الذعر واليأس لكننا نسمع بأن الآراء منقسمة كثيراً فيما بينهم حول الموضوع. بعض الشيعة معها والبعض الآخر ضدها (...)».
هيئة الاتحاد الوطني ورجالها
لا يقرُّ بلجريف في كثير من تفاصيل بعض اليوميات بالمراس والعناد والاستماتة التي يتمتع بها أعضاء هيئة الاتحاد الوطني، والتغيرات التي أحدثتها «الهيئة» في المشهد السياسي في ذلك الوقت؛ وإنْ فعل لابد أن يردف ذلك بما يشبه «التسفيه» والنعوت «المُحقِّرة» لبعض أعضائها، وإن لم يطل أسلوبه الأعضاء جميعاً.
في يوم الأحد (15 أبريل 1956) كتب بلجريف: «كل شيء هادئ على الجبهة السياسية، تبدو الهيئة (هيئة الاتحاد الوطني) ضائعة إلى حد ما، ومشوّشة بدون ابن باكر (يقصد عبدالرحمن الباكر)، الذي كان ضوءهم الهادي بوضوح (...)».
أما يوم السبت (21 أبريل من العام نفسه)، فكتب «كان للهيئة اجتماع ليلة البارحة في السنابس، وألقى عبدالعزيز (الشملان) خطابات عنيفة جداً (...) المزيد من قصاصات الصحف، بالأحرى سيئة، ومفادها «اخرج يا سير جالرز» (تشارلز)، واقتباسات مما قاله عبدالله الوزان والشيراوي في التحقيق، بأن الكل في البحرين يكرهني. كلام غير صحيح، ولكن قد يصدِّقه الناس الذين يقرؤونه».
لم تكن علاقة بلجريف بـ «الهيئة» وأعضائها على ما يرام. ظل الشدّ والجذب، واستماتة الأعضاء من أجل بلوغ الأهداف التي قامت من أجلها، هو العامل المتحكّم في طابع تلك العلاقة. كانت «الهيئة» بالنسبة إلى بلجريف، مأزقاً من المآزق التي لا يبدو أفقاً من حل لها، ويمكن الوقوف على ذلك في النتيجة التي أدّت إلى حلها وسجن البعض ونفي آخرين.
يكتب بلجريف في يومي الأحد الموافقين (8 يوليو و 22 تموز 1956): «(...) ناقشنا إنذار الهيئة الأخير الغاضب بشدة فائقة، بالطبع على أداء لجنة التعليم. كان عندي (بِيس) لبعض الوقت فناقشنا تشريعاً حول الجيوش الخاصة. اجتماع لجنة الصحة في المستشفى، ولكن حضر شخصان فقط. شخص واحد كان خارج البحرين. أنا شخصياً كنت دائماً ضد عقد مثل هذه الاجتماعات للأعضاء المرشحين فقط، لأنهم لا يمكنهم القيام بالشيء الكثير. (غُولْت) عادة في تردّد بخصوص الاضطرابات المحتملة، وهو لم يصنع شيئاً بشأنها. إنهم يفضّلون حدوث أي شيء دون بروز أي نوع من الإضرابات أو الاضطرابات».
في يوم الأحد 22 يوليو، وتواصلاً مع الاجتماعات الخاصة بالهيئة، كتب بلجريف «في الصباح كان من المفترض أن نرتب لقاء بين لجنة الاتحاد الوطني (هيئة الاتحاد الوطني) وسموه، كلنا كنا هناك، ثم وصل عبدالعزيز الشملان لوحده مع عذر ضعيف (غير مقنع) بأنه لم يكن يعرف موضوع الاجتماع (...). سموه أعطاه ردوده بشكل مختصر جداً عن المجلس وعنّي، واحتجاز أعضاء اللجنة (الهيئة) المسئولين شخصياً عن أية مشكلة، ثم سلّمه الرسالة التي فيها كل هذه الأمور فغادر (...)».
اعتقال أعضاء في «الهيئة»
العلاقة التي وسمت هيئة الاتحاد الوطني بالمستشار بلجريف، يضاف إليها الحراك والتحولات التي عرفتها البلاد، ستؤدي في نهاية المطاف إلى إجراءات متوقعة أولها اعتقال بعض الأعضاء، وخصوصاً الذين تقودهم مشاركاتهم وانحيازهم إلى الجماهير، للتواجد ضمن الحراك أو الفعاليات التي لم تتوقف.
يوم الاثنين (5 نوفمبر 1956)، يكتب، بعد أن قمنا بحذف ما بدا بعيداً عن السياق «خرجت للقاء (...) مساء وأخبرته عن مقترح اعتقال الهيئة ليلاً (في الصيغة من المفترض اعتقال أعضاء الهيئة)، فأعطى كامل موافقته. كان يقظاً طوال الليل على السطح، استمع لمجريات السياسة. كان المركز مقابل المنزل، وكانت هناك حركة ومرور لسيارات الجِيب وكأنه ميدان بيكاديللي. تمّت الهجمات بشكل جيد. ثلاثة من زعماء الهيئة هوجموا. الذين اعتقلوا هم: عبدالرحمن الباكر، والشملان، و... وآخر من الحِد سيعتقل لاحقاً (...). أبقينا على حظر التجوال طوال النهار سوى استراحة لشراء الناس الطعام. نقلنا السجناء من المحرق إلى جِدَة بواسطة زورق».
واستكمالاً لاعتقال الشخص الذي يقطن الحد، يكمل بلجريف ما حدث يوم الثلثاء (6 نوفمبر) بالقول: «اعتقال عضو الهيئة في الحد، وهو الذي يسبب الكثير من المتاعب لرجال الحكومة. نشرت مادة طويلة في هيئة الإذاعة البريطانية لتوضيح سبب اعتقالنا للزعماء، وكانت مكتوبة بشكل جيد جداً. في الصباح ناقشت مع (بِيس)، الذي كان متعاوناً جداً. بلغنا أن الناس مذهولون تماماً، وفي الوقت ذاته فإن الأخبار من مصر تبدو أفضل، وليلة أمس تم سؤالي من قبل (BB) ما إذا أردت إلغاء قرارنا باعتقال الزعماء، قلت: لا، وبتأكيد بالغ».
في حلقة أخرى سنستعرض يوميات بلجريف للفترة من العام 1926 و 1932، تلك التي يتناول فيها معاناة الغوَّاصين، بعضها يحمل تفاصيل مهولة، تكشف حجم العذاب والاستغلال والوحشية التي تم التعامل بها مع بشر كان الاقتصاد البحريني وقتها يقوم على سواعدهم وعنائهم، ولذلك حديث وتناول قريب.
بقي القول، إن الترجمة - عموماً - لم تخْلُ من الركاكة والأخطاء، على مستويات: الإملاء، واللغة والصياغة وعدم الترابط في ما بين المفردات - في بعض اليوميات - إذ بدت مبتورة في الكثير من أسطرها. جهد يُشكر القائمون عليه، ولكنه يظل مُربكاً؛ وإن تم التمهيد لذلك الإرباك بالإشارة إليه في مقدمة الكتاب الذي باشر ترجمته «مركز البحرين لحقوق الإنسان» في العام 2009؛ إلا أن جزءاً مهماً من تاريخ البلد، بما احتوته تلك اليوميات، كان يمكن التصدي له بطاقم أكثر تأهيلاً، وجهد أكثر عمقاً للخروج بفائدة وضع القارئ أمام فترة من التاريخ شكّلت جزءاً من تاريخ البحرين من جهة، وتقديمها في الصورة والأسلوب الرصينين اللذين يتطلبان التصدي لمثل تلك المشاريع.
العدد 4436 - الأربعاء 29 أكتوبر 2014م الموافق 05 محرم 1436هـ