قبل عدةِ أعوامٍ مضت تداول ناشطون على نطاقٍ واسع رواية «غرباء في أرض الزنوج» والتي كانت تتحدث بلسان موثقٍ بالصور عن نزوح طيف من البحرينيين إلى زنجبار (تنزانيا حالياً) لظروف ما، حيث نزحت معهم طباعهم وعاداتهم وتقاليدهم وحتى مراسمهم الدينية.

ولكن لا يبدو أن هذا الانتقال الواسع الذي شكل جالية «البهارنة» كما يطلق عليها «التنزانيين» الآن هو الأوحد في سيرة تاريخ البحرينيين، ذلك أن امتدادات الساحل الإيراني غرباً وشرقاً تمثل أمامنا كإحدى المساحات المليئة بمثل هذا النوع من الحكايا.
بندر لنجة هو واحدٌ من مناطق الساحل الإيراني التي أمَّت إليها عائلات بحرينية كثيرة، دفعتها «الظروف غير المستقرة في البحرين خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين» كما يعبر صاحب مدونة سنوات الجريش جاسم آل عباس إلى قصدها كمكان بديل آخر للعيش.
يقع بندر لنجة على الساحل الشرقي للخليج العربي. ويقول آل عباس: «تفصل الصحراء من جهة الشمال بين البندر وبين بلدة مهركان، وتحدّها من جهة الشرق مدينة كنك على بعد ستة كيلومترات، ومن الغرب بلدة اشناص التي تبعد عشرة كيلومترات، مشيراً إلى أنها «كانت بلد مزدهرة وحكمها القواسم ما يفوق التسعين عام، وسميت حينها عروس موانئ الخليج، ولشدة أهميتها فُتحت بها العديد من القنصليات الأجنبية» قبل أن يصيبها القحط إبان الحرة العالمية الثانية.
الباحث محمد اسماعيل الحايكي أعدّ بحثاً بشأن هجرة البحرينيين إلى بندر لنجة، مستعيناً فيه بعدة مصادر منها: (كتاب تاريخ لنجة لمؤلفه حسين الوحيدي، أنوار البدرين لمؤلفه الشيخ علي البلادي، تاريخ لنجة لمؤلفه كاملة القاسمي، عبقرية الانتماء عائلة الفردان من قرية سترة إلى سوح الخليج لمؤلفه محمد حسن كمال الدين، ومدينة المنامة خلال خمسة قرون لصاحبه عبدالكريم العريض).
يقول الحايكي في بحثه: «إن العديد من العوائل البحرينية في لنجة أخذت لقبها من مهنتها كالقلاف والحداد والصفار والنجار. ومن أشهر العوائل التي استقرت في لنجة هي آل عباس والذي يعود نسبهم إلى آل رمضان من خزاعة وهم أصحاب تجارة مهمة ومراكب، ومن آثارهم مسجد بن عباس في محلة اللنكية المعروف بمأذنته الكبيرة المسماة منارة بن عباس».
وأضاف «عائلة آل توبلي البحراني هي الأخرى من العوائل البحرينية التي نزحت إلى لنجة، حيث انتقل عميدهم السيد عبدالقاهر مع عدد من أفراد عائلته من بلاده البحرين وسكن بلدة لنجة، ومازالت بقايا من هذه الأسرة الموسوية تقطن هذه البلدة، وقد تفرق بعضهم في دول الخليج كالإمارات العربية المتحدة وغيرها»، متابعاً «عائلة المديفع كذلك عائلة بحرينية عريقة هاجر بعض أفراد أسرتها إلى لنجة في نهاية القرن التاسع عشر ثم عادت إلى موطنها البحرين في عهد المرحوم حسن المديفع الذي استقر فترة من الزمن في مومبي في الهند وكان من أشهر تجار اللؤلؤ فيها». هذا وأورد الحايكي عائلتي آل فردان والسماهيجي ضمن أبرز العوائل التي قادتها الهجرة إلى ترك البحرين واستيطان بندر لنجة.
وتظهر الصور التي نشرها الباحث التاريخي جاسم آل عباس في مدونته سنوات الجريش محافظة البحرينيين في لنجة على التراث البحريني والذي يظهر بجلاء في نوع اللبس وطريقته خاصة عند كبار السن، والطابع الذي تأخذه مراسمهم الدينية كالعزاء مثلاً.
وفي بحثه يذكر الحايكي أن البحرينيين في لنجة امتهنوا مهن عديدة برز منها التجارة والطواشة (تجارة اللؤلؤ) على وجه الخصوص وركوب البحر، كما عمل عدد كبير منهم في صناعة السفن (القلافة) والحدادة كصناعة المسامير الطويلة الخاصة بصناعة السفن. هذا بالإضافة إلى مهنة الصفارة، وتنظيف الأواني النحاسية، كما عمل عدد منهم أيضاً في نجارة الأدوات المنزلية.
ولم يقتصر النزوح على طبقة اجتماعية معينة، إذ سكن لنجة جملة من العلماء البحرينيين منهم، كما حددهم الحايكي: «اﻟﺴﯿﺪ ﻋﺒﺪاﻟﻘﺎھﺮ ﺑﻦ اﻟﺴﯿﺪ ﻛﺎﻇﻢ اﻟﺘﻮﺑﻠﻲالبحراني، وتوفي في لنجة ﺳﻨﺔ (1304هـ/1886م)، الشيخ عبدالله بن أحمد الذهبة وهو عالم دين وشاعر، الشيخ أحمد بن محمد السرحان البحراني ولد عام (1285هـ/1868م) في مركوبان بسترة، السيد علي بن شبر البحراني، الشيخ صالح بن عطية السماهيجي، الشيخ علي بن الشيخ عبدالله الستري، السيد هاشم بن أحمد البحراني».
كما قطن لنجة من العلماء البحرينيين السيد شبر بن علي الموسوي التوبلي وهو فقيه إمامي من أكابر علماء الشيعة في لنجة وكان في جرأة قادته إلى أن ينتقد الإنجليز فأخرجوه إلى دبي بعد حياة نشطة، وتوفي بها سنة (1337 هـ/1918م)، وكذا ولده السيد جعفر الذي تولى الإفتاء والقضاء في لنجة.
ويتحدث الحايكي في بحثه عن عالم بحريني يدعى السيد محمد بن السيد شرف الجدحفصي الموسوي البحراني، «كان فقيهاً عارفاً بالأمور الدينية والدنيوية، سكن مسقط ومنها هاجر إلى لنجة، وكان نافذ القول عند أمراء العجم، حتى أن رئيس حكام البنادر الإيرانية أحمد دريابكي طلب منه أن يزوره فلم يذهب وأعلمه بأن خير الأمراء من يأتي إلى أبواب العلماء، فأذعن وجاءه. يسمى في لنجة «السيد محمد العالم» وتوفي عام 1902م وضريحه في مسجد بن عباس ببندر لنجة».
واستطاع البحرينييون في لنجة تأسيس مراكز لأنشطتهم الدنية والاجتماعية منها: مسجد السيد عبدالقاهر (بناه السيد عبدالقاهر البحراني)، مسجد الشيخ علي الستري البحراني، مسجد بن عباس، ويقع في فريق اللنكية (البحارنة)، حسينية الحداد، حسينية الإمام الحسن (ع).
أما حسينيات الزينبية، وشروف (الماتم العود)، بي بي (ماتم السيد)، الفاطمية فكلها حسينيات شيّدها البحرينيون وخصّصوها للنساء.