العدد 4431 - الجمعة 24 أكتوبر 2014م الموافق 30 ذي الحجة 1435هـ

جدحفص وجاراتها: وثنية ما قبل الإسلام

لقد تناولنا في الحلقات السابقة التاريخ القديم لمنطقة جدحفص وما حولها من القرى، ولم يكن اختيارنا لهذه المنطقة عشوائياً؛ فهذه المنطقة، بحسب الأدلة التي قدمناها في الحلقات السابقة، تعتبر أقدم منطقة استيطان حضاري على جزيرة البحرين والذي استمر حتى يومنا هذا. بالطبع، هناك مناطق استيطان أقدم من هذه المنطقة في البحرين، إلا أنها كانت مواقع استيطان مؤقتة؛ فلم يستمر فيها الاستيطان إلا لفترة وجيزة. وهذا يعني أن دراسة منطقة جدحفص وما حولها بصورة ممنهجة ستعطي معلومات أكثر دقة بشأن تاريخ الاستيطان في جزر البحرين. إلا أنه تم التركيز على موقع قلعة البحرين والذي يبدأ الاستيطان فيه قبل العام 2300 ق. م. وحتى قرابة العام 400 م، يلي ذلك حقبة خالية من آثار الاستيطان، بعدها تبدأ الآثار بالظهور في قرابة القرن الثاني عشر الميلادي. دراسة هذا الموقع لا تعطينا تسلسل متتابع للحقب التاريخية، بل يشير لوجود حقب خالية من الاستيطان.

بينما، نموذج الاستيطان في منطقة جدحفص وما حولها يختلف تماماً عن أي منطقة أخرى في البحرين، فهو نموذج لا مثيل له؛ ويعود السبب في ذلك لوجود مقبرة أثرية تمتد بطول هذه المنطقة من غربها وحتى شرقها بالإضافة لآثار أخرى.

حدود المنطقة وآثارها

نقصد بمنطقة جدحفص وجاراتها، مساحة من الأرض تضم عدداً من المناطق والقرى، ويمكن تقسيم هذه المنطقة لثلاث مناطق فرعية. المنطقة الأولى تضم آثار كل من مسجد الخميس وسوق الخميس، ولا نقصد بهذه المنطقة منطقة البلاد القديم؛ حيث إن هذه الآثار، بحسب التقسيم الحديث للمدن والقرى في البحرين، توجد خارج حدود البلاد القديم، وبالتحديد توجد بين منطقتي طشان والخميس. وكانت، في السابق، تحسب منطقة الخميس ضمن امتداد البلاد القديم، إلا أن حدود البلاد القديم القديمة تغيرت وتقلصت في الوقت الراهن. يذكر، أنه لم يعثر حتى الآن على آثار قديمة في منطقة البلاد القديم بحدودها الحديثة. وقد سبق أن تناولنا تاريخ مسجد الخميس والمنطقة المحيطة به في سلسلة مستقلة، وكذلك في كتابنا المنشور بشأن تاريخ مسجد الخميس؛ ولذلك لن نتناولها في هذه السلسلة.

أما المنطقة الثانية فيوجد بها آثار استيطان قديمة بالإضافة لمقبرة أثرية عبارة عن مجموعة من التلال. وتبدأ حدود هذه المقبرة الأثرية من قرية الشاخورة وتمتد شرقاً إلى قرية الحجر حيث تتفرع إلى قسمين، القسم الأول يمتد شمالاً ويمر بقرية المقشع وينتهي في جدحفص غرب قرية الديه وقد تطرقنا لهذه التلال بالتفصيل في حديثنا عن مروزان. والقسم الثاني يمتد شرقاً ويقطع قرية جبلة حبشي وينتهي في جدحفص في منطقة تعرف باسم باخانه (باغ خانه). فأما قبور تلال جبلة حبشي فأهمها تلك التي توجد شرق مدرسة جدحفص الإعدادية للبنين وقد نقب فيها. وأما التلال الأثرية الواقعة في منطقة باخانه فلم ينقب فيها.

وباخانه وهي اختصار باغ خانه وهو اسم فارسي معناه بستان البيت أو القصر؛ وقد سمّيت بهذا الاسم نتيجة لوجود بستان كبير بها. وبالقرب منه أو في محيطه من جهة الجنوب كانت توجد مجموعة من التلال الأثرية. ومع مرور الزمن، تجمع على هذه التلال ركام الرمال الناتج في الغالب من المزارع المحيطة، وتحولت تلك التلال إلى تلة واحدة ضخمة عرفت باسم تلة باخانه. هذه التلة لم ينقب فيها، وإنما أزيل جزء كبير منها أثناء بناء مدرسة جدحفص الثانوية للبنات، وأثناء عمليات التجريف تلك عثر فيها على قبور تعود لحقبة ما قبل الإسلام (Andersen 2007, pp. 203). ومؤخراً، وأثناء عملية ترميم أحد المساجد (مسجد بنت يحيى)، القريب من بقايا التلة، كشف أيضاً عن قبر يعود لحقبة ما قبل الإسلام.

ولهذه التلة الكبيرة الكثير من الذكريات والقصص في الذاكرة الشعبية لأهالي تلك المنطقة، فمنها من زعم أنها من بقايا قصر الحاكم السياسي إبان الحقبة الهرمزية وما بعدها. وفي رواية سردية يرويها أحد سكان المنطقة (حسن الحلال) يقول إن بعض بعثة علماء الآثار الدنماركيون في أواخر الستينيات قاموا بالتنقيب في هذه التلة وقد وجدوا فيها آثار معبد كبير لا بل كلها معبد يعود تاريخه إلى ما قبل التاريخ. هذه الرواية بها شيء من الحقيقة، فالدنماركيون نقبوا في بعض تلال جدحفص في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي (Bibby 1954) ويرجح أنها التلال الواقعة على الأطراف الغربية لجدحفص. والحقيقة الثانية أن الآثار التي تخفيها التلة فعلاً تعود لحقبة ما قبل الإسلام، وربما قبل الميلاد أيضاً.

أما المنطقة الفرعية الثالثة، فهي عبارة عن ضاحية ساحلية مهمة، هي ضاحية مني ومروزان التاريخية، والتي كانت من أهم المناطق الزراعية التي تخدم مراكز الاستيطان القريبة منها، بالإضافة إلى ساحل هذه الضاحية، والذي كان من أهم الموانئ، إضافة لكونه من أغنى مناطق صيد الأسماك. وقد تناولنا تفاصيل هذه الضاحية في حلقات سابقة.

نموذج الاستيطان وتسلسل الحقب

إن نتائج عمليات التنقيب الآثارية التي أجريت في المواقع الأثرية في الشاخورة والحجر والمقشع وجبلة حبشي وجدحفص، بالإضافة لنتائج التنقيب في موقع مسجد الخميس وما حوله، تشير إلى أن بداية الاستيطان في هذه المنطقة بدأ قرابة 3200 ق. م. ويستمر حتى يومنا هذا. الجدير بالملاحظة هنا، أن هناك حقبة زمنية تمتد من قرابة العام 400 م وحتى 1100م، لا يوجد لها تمثيل آثاري متسلسل في أي منطقة أخرى في البحرين. وهذه الحقبة، أي 400م - 1100م، يمكن تقسيمها إلى خمس حقب زمنية هي: حقبة العصر الجاهلي، وحقبة صدر الإسلام، والحقبة الأموية، والحقبة العباسية المبكرة (حقبة سامراء)، وحقبة القرامطة.

توزيع المناطق والحقب الزمنية

المنطقة قيد الدراسة بها العديد من القرى أو المناطق الفرعية ولكل منطقة خصوصيتها، وكل منطقة تمثل عدداً من الحقب الزمنية، وتكون فيما بينها تسلسل تاريخي مستمر. فالمنطقة التي بها مسجد الخميس وسوق الخميس، يوجد بها ثلاث حقب زمنية ممثلة تمثيلاً ممتازاً، وهي: الحقبة الأموية، الحقبة العباسية المبكرة، حقبة القرامطة. أما الحقبة الأكثر ندرة في التمثيل في المناطق الأثرية في البحرين بصورة عامة، هي الحقبة الواقعة بين 400م - 700م وهي حقبة العصر الجاهلي، أو الحقبة الساسانية، وتليها حقبة صدر الإسلام. وقد اعتقد البعض أن في هذه الحقبة هُجرت جزيرة البحرين الكبرى وتركز الاستيطان في جزيرة المحرق. إلا أن الدراسات الآثارية تشير لوجود مواقع استيطان في جزيرة البحرين تعود لهذه الحقبة.

فبحسب الدراسات التحليلية التي أجريت على الزجاجيات التي عثر عليها في التلال الأثرية التي توجد في كل من المقشع والحجر تشير إلى أن بعض هذه الزجاجيات يعود تاريخها للحقبة 500م - 600م (Andersen 2007, pp. 85 - 90). كذلك تشير الدراسات التحليلية التي أجريت على الفخار الذي عثر عليه في كل من المقشع والحجر وجبلة حبشي والشاخورة تشير إلى أن بعض هذا الفخار ربما يعود تاريخه للحقبة 400م - 600م (Andersen 2007, pp. 85 - 90, and Table 337). هذه النتائج تشير بوضوح إلى أن مناطق الاستيطان في العصر الجاهلي أو الحقبة الساسانية هي الشاخورة والحجر والمقشع وجبلة حبشي، وربما جدحفص، غير أنه لا توجد عمليات تنقيب آثارية ممنهجة في جدحفص، ما يعني أنه لو كان هناك آثار تؤكد هذا الاستيطان في هذه الحقبة ربما طمس قبل أن يتم التنقيب فيه.

ولكن هل عثر على آثار تشير لاستيطان قبائل عربية قبل الإسلام في هذه المناطق؟، وهل توجد أدلة تشير لاستيطان هذه المناطق في حقبة صدر الإسلام؟ هذا ما سنحاول أن نجيب عليه في الحلقة القادمة.

العدد 4431 - الجمعة 24 أكتوبر 2014م الموافق 30 ذي الحجة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً