في الخامس عشر من هذا الشهر، نشر توماس فريدمان، في صحيفة “النيويورك تايمز” مقالة ناقش فيها ما دعاه بـ “حرب النفط”، مشيراً إلى أن انخفاض سعر النفط، هو بهدف إغراق بوتين وخامنئي، في خضم أزمة اقتصادية. وذكر بما حدث سابقاً من إغراق الاتحاد السوفياتي حتى الموت، بخفض أسعار النفط العالمية، إلى مستويات متدنية للغاية، ما كان كفيلاً بإحداث العجز المطلوب، متوقعاً أن يؤدي إغراق سوق النفط الآن، إلى إفلاس موسكو وطهران.
وأشار فريدمان إلى أن ما يحدث الآن في أسواق البترول العالمية يعيد إلى الأذهان قصة سقوط الاتحاد السوفياتي، عندما تخلت السعودية، عمّا تفرضه من رقابة على أسعار البترول العالمية. إن زعزعة أسعار النفط العالمية، سيكون له حتماً أثره السلبي في اقتصاد روسيا وإيران، نظراً إلى ما تمثله عائدات النفط من أهمية كبيرة لهاتين الدولتين، فعائدات النفط تمثل 60% من إيرادات الحكومة الإيرانية، وتمثل أكثر من نصف إيرادات الحكومة الروسية .
كان بالإمكان أن تمر هذه المقالة مرور الكرام، لولا السمعة الواسعة التي يتمتع بها كاتبها، وقربه من مركز صنع القرار الأميركي، بما يجعل لكلامه صدى في الأوساط العالمية والإقليمية .
واقع الحال، يفرض صعوبة التسليم بالفرضية التي جاء بها فريدمان. فإذا كانت روسيا تعتمد على النفط بما يقارب الـ 50%، وإيران تعتمد عليه بما يقارب الـ 60%، فإن اعتماد دول الخليج العربي، على النفط، في دعم خطط التنمية، يتخطى هذه النسب بكثير .
ولن يكون مجدياً الحديث هنا عن التاريخ، لأن ذلك لا يمكن استنساخه أبداً، إلا بشكل كاريكاتوري ومشوه. والاستدلال بسقوط الاتحاد السوفياتي، وإرجاع أسبابه إلى انخفاض أسعار النفط في حينه، هو قراءة مضللة وغير دقيقة، لأن أزمة انخفاض سعر النفط في حينه، كانت وليدة، ولم يمض عليها وقت طويل. لقد أرهق الاتحاد السوفياتي اقتصادياً، وبشكل حاد، بسبب سباق التسلح، الذي استمر أكثر من أربعة عقود. وهو سباق، استمر طويلاً في حصد الجزء الأكبر من ميزانية الاتحاد السوفياتي.
كان السوفيات يتحملون، بسبب عقيدتهم الشيوعية، كلف استمرار الأنظمة الحليفة لهم، في القارات الثلاث: آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية. وبعض هذه الأنظمة تفتقر لأي قدرة اقتصادية، كما كان الحال في اليمن الجنوبي وكوبا وأنجولا وكوريا الشمالية. وكانت علاقة السوفيات بالصين الشعبية، في أسوأ حالاتها. وقد وصلت حافة الحرب مرات عدة.
لقد أصيب النظام الشيوعي بالشيخوخة، ونخره السوس، ولم يتمكن من تجديد نفسه، بالطريقة التي جدد النظام الرأسمالي الغربي فيها نفسه. وجاء برنامج حرب النجوم، الذي أطلقه الرئيس الأميركي، رونالد ريغان، ليستنزف البقية الباقية من الخزينة السوفياتية. لقد استنفذ التمدد السوفياتي، وانتشار قواعده العسكرية، في بقاع كثيرة من العالم، موارده، وكانت هذه العوامل مجتمعة، هي أسباب سقوطه .
وإيران الذي تحدث عنها فريدمان، وتوقع سقوط نظامها السياسي بفعل ارتفاع أسعار النفط، خاضت حرباً ضروساً ضد العراق ثماني سنوات، وتعطل إنتاجها من النفط. وقد تسببت تلك الحرب في مصرع أكثر من نصف مليون إيراني، وضعفهم من الجرحى. كما تسببت في مشاكل اقتصادية كبيرة، وأدت إلى انهيارات اجتماعية، ومع ذلك استمر نظامها السياسي، ما يزيد على الربع قرن، منذ توقفت تلك الحرب العام 1988، رغم المصاعب الاقتصادية التي مرت بها، ولا يزال قائماً حتى يومنا هذا .
إيران في وضعها الحالي، تتوسع يمنة ويسرة، حيث يمتد عمقها الاستراتيجي إلى أفغانستان شرقاً، وحوض البحر الأبيض غرباً، وإلى مضيق باب المندب والقرن الإفريقي جنوباً. هذا التوسع، ربما يضيف إلى إيران ثقلاً سياسياً، ولكنه بكل تأكيد سيشل قدرتها على تحقيق التنمية لشعبها، ورفع معدلات دخله. والمؤكد أن ذلك سيؤدي لتحقيق خلل كبير في شرعية النظام، ويعزّز من احتمالات بروز قوى معارضة حقيقية له.
أما روسيا، فلا يتوقع أن يلحق بها ضرر حقيقي، جراء تخفيض سعر النفط، فهي أولاً حققت تحالفاً حقيقياً شاملاً مع الصين الشعبية. وليس من المنطق أن يسارع الصينيون إلى إنقاذ أميركا، وشراء سندات الخزينة الأميركية، ويقفون متفرجين أمام أزمة اقتصادية يمر بها حليفهم الروسي.
يضاف إلى ذلك، أن روسيا تمتلك من الوفرة المالية، ما يمكنها من الصمود طويلاً، لحين انتهاء أزمة أسعار النفط. وهي أزمة لن تطول بسبب مجموعة من العوامل، أهمها حاجة أسواق النفط العالمية، وحاجة الولايات المتحدة لاستثمار منتجاتها من النفط الصخري، الذي لن تقدم على استخراجه، بتكلفة عالية، طالما أن المتوفر في الأسواق العالمية هو أرخص من كلفته بكثير.
وروسيا اليوم ليست كالدولة السوفياتية، فبدلاً من النظام الشيوعي، هناك نظام رأسمالي فتي، انطلق بقوة هائلة. وعلاقاته مع الدول مبنية على المصالح، وليس على الاصطفاف العقائدي. وقياداتها، ليست كنظيرتها في الاتحاد السوفياتي، التي ضمت مجموعة من الشيوخ الهرمين. إنها قيادات طموحة، في منتصف عمرها، وتملك طاقة على العمل، ولديها القدرة على إيجاد مخارج للأزمة، بتأجيل بعض خطط صيانة البنية التحتية، بما يتسق مع الأزمة الراهنة. وقد أكدت هذه القيادة السياسية حتى الآن تفوقها على نظرائها الأميركيين والأوروبيين، على الأقل في أزمتين حادتين، هما أزمة جورجيا وأوكرانيا، حيث استثمرت الأزمة فضمت أجزاء مهمة من الدولتين لجرفها، وعجز الأميركيون والأوروبيون، في الحالتين، عن فرض شروطهم على إدارة بوتين.
إن ما يجري حالياً، بين روسيا وخصومها في أميركا وأوروبا، هو صراع إرادات. فهناك قوى آفلة، وقوى أخرى تتهيأ لامتلاك ناصية المستقبل. صراع بين منظومة “البريكس” وأميركا والاتحاد الأوروبي، وهناك منظومة أخرى تتشكل، كمنظومة شنغهاي. وسوف تكشف السنوات القليلة المقبلة، عمن هي القوى الآفلة ومن هي قوى المستقبل، وليس علينا سوى الانتظار، أو صناعة استراتيجية عربية خاصة بنا، تليق بالكبار وبصناع الحضارات.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4430 - الخميس 23 أكتوبر 2014م الموافق 29 ذي الحجة 1435هـ