دعونا ننظر إلى صور برلين العام 1945. إنها في دمار رهيب، يغطي مأساة الإنسانية كلها. كان من الصعوبة على أيّ أحد أن يمشي في شوارعها متراً واحداً دون أن يتخطَّى حجراً أو جثة متحللة أو يقف أمام حاجز عسكري يحرسه جنود قساة من السوفيات والحلفاء.
الآن لنقلب اللحظة ونُغيِّر صفحة التاريخ سبعين سنة إلى الأمام حتى عامنا الذي نحن فيه، ولنشاهد ذات الأحياء البرلينية التي كانت مُدمَّرة بعد الحرب العالمية الثانية. كل شيء سيبدو مختلفاً، شوارع نظيفة، وجسور علوية، وأبنية شاهقة، وصورة من التقدم التكنولوجي وأناس يتدثرون بملابس تعكس أقصى صور الموضة.
ولو أخَذَنا الخيال إلى مثل هذا اليوم، الثالث والعشرين من أكتوبر قبل 31 عاماً لمناطق إيلام وباختران وخوزستان في إيران والبصرة وديالى وكركوك في العراق، ماذا سنرى غير أرضٍ مطحونة تحت هَرْسِ الدبابات وأزيز الطائرات، حيث كانت الجيوش الإيرانية العراقية تتعارك في حرب ضروس هي الأطول خلال ذلك القرن (1980م – 1988).
أما اليوم، فتلك المناطق ليست كما كانت. هناك حياة بكل ما للكلمة من معنى. وهناك تبادل تجاري وعقود إنشاء لا تتوقف، ومصافي نفط تعمل. هذا الأمر تكرّر كثيراً في العالم. في اليابان وفي الكوريتين وفي الهند وفي باكستان وفي بنغلاديش وفي روسيا وفي الصين بل وفي كثير من البلدان، بل وحتى في الغرب الذي تغيَّرت قيمه السياسية ما بين عام 1881 وعام 1914 في النظرة إلى الأنظمة الديمقراطية أو حتى إلى الجمهورية الاشتراكية.
نحن نتساءل الآن: ما هي القوة التي جعلت من تلك المناطق لأن تكون مُدمَّرة حيناً ومُعمَّرة حيناً آخر؟ الجواب وبكل بساطة: إنه الإنسان! نعم. الإنسان هو مَنْ دمَّر برلين، وهو مَنْ عَمَّرها. وهو مَنْ سَفَح الدَّم في الصين عندما كانت جمهورية موز، وهو مَنْ أوقفه وأنهاه في شبه الجزيرة الكورية. وهو الذي أباد ملايين الكمبوديين خلال حقبة الخمير الحمر، وهو الذي غيَّر طعم البلد إلى تلمّظ آخر. نعم هو الإنسان.
اليوم، مثلما يبني جون أوكيف وماي بريت موزر وإدفارد إي موزر مجد العالم باكتشافهم «نظاماً في الدماغ هو بمثابة جهاز تموضع (جي بي إس) داخلي يسمح بتوجيه أنفسنا في المكان»، يبني داعشيٌ أو طائفيٌ سخرية العالم بِحَزِّه رقبة إنسان وهو يعفر برجليه، أو يتزنَّر بكومةٍ من المتفجرات، كي يُوقع أكبر عدد ممكن من القتلى في سوق للخضار.
يحلل جان تيرول «القواعد التنظيمية في الأسواق» وضرورة ملاءمتها «مع أوضاع كل صناعة على حدة لا أن تكون مبادئ عامة تسري على جميع الصناعات»، فيفك بذلك لغزاً اقتصادياً، وفي الوقت ذاته يزيدُ الدواعش من لغز النفس البشرية وهم يتبارَوْن في التوحُّش والذئبيَّة ضد بني جلدتهم من أولاد آدم، وهو التوحش الذي لم يعد له مثيل.
الذي يظهر أنه وعندما يتطوّر الإنسان يتطوَّر معه محيطه. وعندما ينحدر، يتهاوى ذلك المحيط لينتهي به إلى الخراب. إذاً، نحن أمام تحدٍ خطير، يجعل النفس الإنسانية أمام اختبار أن تكون كما جُبِلَت بالفطرة، أو أنها تضيع في دهاليز الرغبات الحيوانية المتوحشة على ذاتها وعلى غيرها، وهو الأمر الذي يسلب منها كل مقومات التحضُّر.
دعونا نفكر ملياً فيما يجري، أو بصورةٍ أدقّ أن نفكك المشهد الذي نحن فيه. فالمنطق يقودنا إلى ضرورة أن نؤمن بمركزية الفعل في هذا العالم. ما أقصده من ذلك، هو مكامن القوة المادية، التي تستطيع أن تُحرِّك المنظومة الإدارية والتنفيذية ونظام المصالح من خلال نظم سياسية أو هياكل دولة تحتكر القوة غير الطوعية، حيث يقودها البشر.
هذه المنظومة هي الأقدر على تسيير الأمور، واجتراح الفعل الجيد من الرديء. وبالتالي فإن القضية لا تتعلق بمجتمعات فاسدة بقدر ما هي إدارة فاسدة لتلك المجتمعات. فالمجتمع ككتلة بشرية عائمة على الأهواء والميول هو حالة مطلقة تحتاج إلى تحديد وضبط.
حتى الدّهماء من الناس، هم ليسوا نتاجاً اجتماعياً مُجرَّداً أو مفاجئاً، بل هم نتيجة طبيعية لأوضاع سياسية وفكرية واقتصادية مُحدَّدة جعلت منهم دُهماء، وبالتالي فنحن نتحدث عن غياب الحكم الرشيد للمجتمع، والذي من خلاله نستطيع أن نَزِن الأمور.
نعم، لا يمكن تبرئة المسئولية الفردية داخل الحركة الاجتماعية، فهي أيضاً مُلزَمة بضوابط وقواعد أساسية لتحقق الإنسانية كما فعل الأسبان مع تجربة الجنرال فرانكو، لكننا نتحدث عن الإجمال، الذي استطاع أن يخلق مجتمعاً ألمانياً يمشي وراء الحرب قبل ثمانين عاماً، ومجتمعاً ألمانياً يكره الحرب اليوم. هذا هو مركز التفكير الذي نقصده.
لنا أن نتساءل: هل كان بمقدور إيسامو أكاساكي وهيروشي أمانو وشوجي ناكامورا «اختراع الصمام الثنائي الباعث للضوء وتقنية (ليد) للإنارة التي تسمح باقتصاد الطاقة والحفاظ على البيئة»، لو أنهم كانوا يعيشون في حكم سياسي كالذي أنتَجَ التطرف؟
خَرَجَت شواذ من هنا وهناك، لكننا نقرّر بناءً على القاعدة والأصل لا على الشواذ. فالقيم السياسية تلعب دوراً أساسياً في توجيه المجتمع، إنْ إلى السِّلم أو إلى الحرب! وإلاَّ فلماذا كانت القابليات مختلفة عند اليابانيين في ثلاثينيات القرن الماضي وبين هذا الحاضر؟
ما يجب أن يُدرك أن الدولة والمجتمع في حالة اتصال دائم. بمعنى أن المنطق يفرض أن يأتي قادة الدولة من المجتمع، وأن يُرعَى الأخير من أفراد كانوا منه، وبالتالي يصبح الأمر مُركَّباً، فارضاً على الطرفين شروطاً وواجبات، لكنها تبقى أكثر صرامة على مَنْ هم في الحكم.
فالمجتمع هو وعاء أكبر لإنتاج الطاقات والتوجهات، لكن ذلك الوعاء يبقى محكوماً بالقوانين التي يجب أن تفرضها الدولة. في كل الأحوال، تبقى النتيجة التي تحكم العالم هي أن الإنسان هو مجد العالم وسخريته ولغزه كما كان يقول الشاعر الانجليزي ألكسندر بوب.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4429 - الأربعاء 22 أكتوبر 2014م الموافق 28 ذي الحجة 1435هـ
شكرا
مقال رائع
أبدع الرجل
أبدعت يا بو عبدالله
شكرا
شكرا . موضوع راقي فكر ارقى
مقال جميل
لو تكتب لنا مقالا أجمل منه عن اليمن أستاذ محمد