العدد 4429 - الأربعاء 22 أكتوبر 2014م الموافق 28 ذي الحجة 1435هـ

إدارة الحياة بالإكراه: موت!

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

أكثر الناس اليوم، يمرُّ على، ويفهم «لا إكراه في الدّين»؛ ضمن ما يريد وضمن شروطه! يمكن تجيير ذلك النص والاستشهاد به من قبل بعضهم حتى وهو يسيء معاملته لأهله؛ ويرى ذلك التجاوز لفك الارتباط، مصداقه الآية نفسها، في عبقرية وذكاء لافت!

هكذا يقفز النص إلى ذهن الانتهازيين، ممن يستدرجون البعض إلى الإكراه، استبدالاً لـ «إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان»، ضمن حدودها ومواضعها، وتلك صورة محلّها نوازع النفس؛ ولكنها تنكشف بالأداء.

ويحدث التغافل عن النص في أحيان كثيرة، ولا يُرى محلاً له في الشاهد، بالنظر إلى ما دون الدِّين في الإكراه الذي لا ينقطع من حولنا في عالم اليوم، والأمكنة التي نجد أنفسنا فيها محكومين بفعل تلك المنظومة من الإكراه.

ضَرْب المثل بالشاهد الأكبر، يحطُّ ويسفّه محاولة تمرير الأصغر الذي منه ينفذ الإكراه في صور شتى.

ما بعد ذلك النص من حيث تأصيله لاحترام خيارات الإنسان، وما يتفرّع عنه مما هو دون الدِّين، بتنظيم شئون الحياة وحقوق البشر، يبقى طيّ النسيان والمراوغة والقفز عليه.

وأعظم الإكراه، الإكراه في الدّين. ومنه بدأ القرآن لأهميته ومحوريته في حياة البشر، ودوره في تشكيل منظومة أخلاقهم وسلوكهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم مع المحيط من حولهم والعالم؛ فمن باب أولى قبْح الإكراه في ما دونه.

يختصر ذلك النص الإكراه في الخيار. في الاعتقاد الذي ينظم حياة الناس وسلوكهم وتفكيرهم وعلاقاتهم ويوفر لهم توازناً يحتاجونه، وانسجاماً ينأى بهم عن الاضطراب. الآية نفسها لم تُبعِّض الأمر؛ أي لم تقلْ: لا إكراه في «بعض» الدِّين. ومن باب أولى لا إكراه في «بعض» خيارات الإنسان الحقّة، عدا الإكراه المفتوح والمتعدِّد والمطلق الذي يطول أهم ما يدل على أنه على قيد الحياة، بممارسة إنسانيته واحتفاظه بكرامته، وتفعيله لدوره وحقه في المشاركة في إدارة شئونه، وتحديد مصيره.

والدّين نفسه هو المنظومة التي شكّلت وعي وسلوك وأخلاق ونظر ومعاملات وعلاقات الإنسان عموماً، والمسلم خصوصاً، مع العالم من حوله، إنطلاقاً إلى ما بعد ذلك «الحوْل» في الجغرافية التي تضمّه إلى المدى الأوسع والمفتوح على العالم، وعلى البشر أنَّى كانوا.

في الإكراه، محاولةٌ للإخضاع، ولا يتوقف ذلك على الدِّين وحده، باعتباره يمثل التسليم والامتثال. يطول ذلك تفاصيل في الحياة. بالإكراه في الدِّين، يكون تنظيم حياة المرء مرهوناً بما ومن أكْرَهَ، ولا نظام حياة في الإكراه أساساً!

وفي القليل من تفاصيل الحياة من حولنا، ثمة من يحاول إكراهك على توقيع صكّ ارتهانك له، تحت أكثر من مظلة وتبرير وبند وتسويغ. إكراه على أن تسلّم، مُعطّلاً خيارك وتفكيرك وتحديدك لما ينفعك ويضرك. كل ذلك يتم مصادرته وإدخاله ضمن الإكراه بدعوى تنظيم الحياة، فيما الواقع والمآلات تقول بتنظيم حياة من أكرَهَ، والتأسيس لمنظومات يجد المرء نفسه في نهاية المطاف أصلاً من الأصول المملوكة التي لا خيار لها في أن تفتدي نفسها وتفك رهْنها!

وفي السياسة أكثر من إكراه. إكراه في الأداء الذي يتم وضع ضوابط لاستمراره، وفرض القبول به، وتحويل بعض البشر في لحظة من اللحظات إلى ترْس في آلة الدعاية له، والترويج لتعميمه، من دون أن يملكوا حق استجواب وقراءة وإدانة ورفض ذلك الأداء.

وتجرّ السياسة إكراهات تتفرّع وتمتد وتتطاول كلما ساء الأداء. محاولة جرّ الناس إلى أن يكونوا متطابقين ومتشابهين؛ أو بصّامين، لا يحقق وزناً ولا قيمة ولا معنى لتلك الحياة. وتوهّم القدرة على تحقيق ذلك، هو ضرب من كوابيس القيلولة بعد وجبة دسْمة في نهار قائظ!

ومثلما «لا إكراه في الدّين» بكل محوريته، فمن باب أولى، والحديث الدائر اليوم عن «الانتخابات»، أن يكون «لا إكراه في الانتخابات»؛ إذ لا حق لأحد في ممارسة مثل ذلك الإكراه: الطرف الذي يروّج لها ويهدّد، والطرف الذي نأى بنفسه عنها ضمن خيار هو من حقه، هو الآخر لا يحق له أن يكره الناس على التطابق معه، متوعداً ومهدّداً لهم. ومن يستنكر تعرضه للتهديد كي يدخل في ما يُراد تسويقه، عليه ألاّ يمارس التهديد ضد من يرى قيمته ووزنه في أن يكون جزءاً من التسويق والممارسة!

وفي نهاية المطاف، الحياة التي تُدار بالإكراه هي أخت الموت؛ إن لم تكن الموت نفسه ولكن برسم التأجيل.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4429 - الأربعاء 22 أكتوبر 2014م الموافق 28 ذي الحجة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • المتمردة نعم | 3:34 ص

      المتمردة نعم

      دائما مميز في كتاباتك نعم لا اكراه في الانتخابات ولكن هناك اكراه غير مباشر هناك تهديدات مبطنة اذا لم تشارك يمكن تسقط منك بعض الامتيازات الحكومية واذا شاركت فانت منبوذ مكروه من المجتمع وممكن تتعرض للاذى في النهاية الحقيقة ضائعة والمتسيدين المتسلطين على رقاب الناس وعقولهم يفترض انهم الاخسرون ولكنهم في حقيقة الامر هم الرابحون من هذه المعركة الطاحنة

    • زائر 2 | 2:27 ص

      انتخابات نزيه

      الشروط للمشاركه في الانتخابات حددتها المعارضه المسلوبه والمظلومه فكيف مثلا تشارك المعارضه ولم يعطونها حقوقها فهل نحن نعيش في الغاب

    • زائر 1 | 1:36 ص

      القسر لا يدوم

      الانسان الحاكم لا يمكن ان يجبر الناس كافراد وجماعات على ما يريد قد يجبرهم ويسيطر عليهم ظاهرا لفترة مؤقته لكن تبقى النفوس حرة والارواح تتطلع وتهفو لما تؤمن به الحرية الكرامة العزة المشكلة باقية وان اكرهتم الاجساد

اقرأ ايضاً