هناك مجموعة من العوامل التي تعمل متضافرة من أجل إزاحة الدولار من القمة التي يتربع فوقها. أول تلك العوامل، هناك ما يقارب من تريليوني دولار من العجز التجاري الأميركي لصالح الصين، الأمر الذي حول واشنطن إلى ما يشبه الأسير المالي غير القادر على التخلص من قيوده جراء الأزمة المالية التي يتخبط في أوحالها. يضاف إلى ذلك اعتماد الولايات المتحدة اللامحدود على الطاقة المستوردة، وهو ما يضع الاقتصاد الأميركي رهينة في يد تقلبات أسعار تلك المصادر، التي فقدت الولايات المتحدة نسبة عالية من عناصر السيطرة على كمياتها في الأسواق، أو التحكم في معدلات أسعارها. ثالث تلك العوامل، تداعيات الأزمة الاقتصادية الأميركية الداخلية، وانتشارها في قطاعات أخرى مختلفة عن السوق العقارية الداخلية. رابع تلك العوامل وأكثرها تأثيرا، هي الحروب المتتابعة المرهقة، ماليا وسياسيا، التي خاضتها الولايات المتحدة خلال العشرين سنة الماضية، وعلى وجه الخصوص منها في أفغانستان والعراق، والتي أحدثت عجزا بلغ مئات المليارات من الدولارات، في الموازنة الأميركية، وهي حالة لم يعرفها الاقتصاد الأميركي حتى إبان الحرب الكونية الثانية. خامس تلك العوامل هي بذور المعدلات العالية للتضخم التي نثرتها تلك الأزمة، والتي أدخلت البنك الفدرالي الأميركي فيما يشبه الدوامة بين حاجته الماسة إلى سيولة متزايدة من جهة، وخوفه من مخاطر توفير تلك السيولة عن طريق طبع المزيد من الأوراق النقدية وزيادة عرضها في السوق الأمر الذي من شأنه مد العوامل التضخمية بما تحتاجه للارتفاع والازدهار من جهة ثانية.
هذا على المستوى الداخلي، أما على المستوى الخارجي فلابد من مراقبة ذلك الاتجاه الذي بدأت تأخذ به بعض البلدان من أجل تعزيز عملاتها، بشكل جماعي، كما حصل مع دول الاتحاد الأوروبي، التي اعتمدت اليورو كعملة موحدة يجري تبادلها في 12 من الدول الأعضاء، وحقق - اليورو- محققة جراء بعض التفوق على الدولار الأميركي، بلغت نسبتها خلال العام الأول من حياة اليورو 15في المئة من قيمتها.
هذا لاينبغي أن يقودنا إلى استنتاج خاطئ مفاده ترشيح اليورو كعملة عالمية بديلا للدولار الأميركي، لكننا في الوقت ذاته، من الطبيعي أن نرقب التحولات التي باتت تهز الاقتصاد الرأسمالي من جذوره، وتضع علامات استفهام كبيرة أمام الكثير من المسلمات التي رسختها العديد من المدارس الرأسمالية، ومن بينها أن الدولارهو العملة الأكثر أهلية لأن يكون عملة عالمية.
ولربما أصبح من المفيد اليوم، ونحن نشهد ترنح الدولار، واهتزاز دعام النظام الرأسمالي معه، العودة إلى منتصف الستينيات من القرن الماضي، عندما حاول الرئيس الفرنسي شارلس ديغول، كما يقول أستاذ اقتصاد في «الجامعة الاميركية» واشنطن، «الاستفادة من ضعف الدولار واستخدامه خارج الولايات المتحدة أثناء حرب فيتنام إعادة الاعتبار إلى الذهب كقيمة معيارية ثابتة في المبادلات المالية»
والاتحاد الأوروبي ليس الكتلة الوحيدة التي بدأت يلوح بورقة العملة العالمية، فهناك محادثات تدور في الخفاء بين موسكو وبكين، من أجل تبني طرح عملة عالمية تعتمد على اقتصادين طموحين، الأول وهو الروسي، لديه الكثير من مقومات التطور، خاصة عندما يؤخذ في الاعتبار ما تحت يد موسكو من موارد طاقة من أبرزها الغاز الطبيعي، يضاف إلى ذلك إمكانات الاقتصاد الصيني ذي النمو العالي المستمر منذ ما يزيد على العقد من الزمان والذي بلغ 10في المئة سنويا.
هنا سيبرز على ساحة العملة العالمية الموحدة مجموعة من اللاعبين الصغار والكبار ممن لديهم مصلحة مباشرة أو حتى غير مباشرة في التخلص من سيطرة الدولار. يمكننا الإشارة إلى دول أميركا اللاتينية التي يقود هوغو شافيز حملة واسعة من أجل أن تنال مجموعة من دول تلك القارة ولو جزءا من استقلاليتها عن واشنطن. ومن الغرب نتجه غربا حيث نجد النمور الآسيوية على أهبة الاستعداد للانقضاض على الدولار لصالح اقتصادياتها وعملاتها المحلية، التي هدمها الدولار، وبخر نسبة عالية من قيمتها على التوالي.
الاقتصادي المصري المخضرم، حازم الببلاوي يحاول أن يذهب أعمق نظريا عند تناوله للأزمة، فنجده يستعين بأبي الاقتصاد الرأسمالي الحديث ل جون ماينر كينز الذي يرى أن «تدويل النظام العالمي لايعني أن تكون النقود الدولية مجرد عملة وطنية، بل تقوم مؤسسة دولية بإصدار عملة دولية في شكل ائتمان، تقدمه هذه المؤسسة للدول المحتاجة عن طريق عملة جديدة أطلق عليها اسم (البانكور). فالمؤسسة الدولية المقترحة لا تقرض نقودا وطنية لإحدى الدول، وإنما تصدر»ائتمانا» عليها، ويقبل هذا الائتمان في التعامل من مختلف الدول. وهكذا تتحول هذه المؤسسة النقدية الدولية إلى نوع من (البنك المركزي العالمي) الذي يصدر نقودا دولية باعتبارها ائتمانا على الاقتصاد العالمي وتقبل من جميع الدول».
ملخص القول إن الرأسمالية العالمية اليوم باتت بحاجة إلى مؤسسة دولية، وليس دولة معينة قادرة ماليا وقانونيا على أن تفرض قواعدها، أو كما تقول مجلة لوموند ديبلوماتيك الفرنسية «لا يمكن للحل أن يتأتى من قاعدة: كل يعمل لمصلحته الخاصة، بل لا بد من أن تحدد تلك القواعد ولو جزئيا بجهود مشتركة، والقواعد الدولية تعني كذلك الحكم الدولي».
لقد شكلت «حقوق السحب الخاصة»، في مرحلة معينة مبادرة تستحق الدراسة من أجل تطويرها وتحويلها إلى عملة عالمية تقيم، إلى حد بعيد، نظاما عادلا، يحفظ، إلى درجة معينة، الحقوق المشتركة للمجتمع الدولي، وهو الأمر الذي فشل الدولار كعملة عالمية في تجسيده.
لقد أصبح الدولار، كعملة عالمية عبئا عضالا على المجتمع الدولي، الذي لم يعد أمامه من حل، بعد أن فشلت كل المنشطات والمهدئات من أجل إطالة عمر الدولار، سوى العملة العالمية.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2489 - الثلثاء 30 يونيو 2009م الموافق 07 رجب 1430هـ