قبيل انتهاء الحرب العالمية الأولى، وتحديداً في العام 1916، جرى تفاهم سري بين فرنسا وبريطانيا، على اقتسام المنطقة المعروفة بالهلال الخصيب، كمقدمة لترتيبات ما بعد الحرب. وقد قاد هذه المفاوضات، الدبلوماسي الفرنسي، فرانسوا جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس. وقد حملت الاتفاقية السرية المذكورة اسميهما.
بموجب هذه الاتفاقية، حصلت فرنسا على الجزء الأكبر من الجناح الغربي من الهلال (سورية ولبنان) ومنطقة الموصل في العراق. أما بريطانيا فسيطرت على طرف من بلاد الشام الجنوبي متوسعاً، وتمددت شرقاً، لتشمل بغداد والبصرة وجميع المناطق الواقعة بين الخليج العربي والمنطقة الفرنسية في سورية. كما تقرر أن تقع فلسطين تحت إدارة دولية. ولكن الاتفاق نص على منح بريطانيا مينائي حيفا وعكا على أن تكون لفرنسا حرية استخدام ميناء حيفا، ومنحت فرنسا لبريطانيا بالمقابل استخدام ميناء الاسكندرونة الذي كان سيقع في حوزتها.
في مؤتمر سان ريمو العام 1920، تم التأكيد مجدداً على هذه الاتفاقية، وأقر مجلس عصبة الأمم وثائق الانتداب على المناطق المعنية في 24 يونيو/ حزيران 1922. وفي العام التالي، واستكمالاً لمخطط تقسيم، عقدت اتفاقية جديدة عرفت باسم معاهدة لوزان لتعديل الحدود، تنازلت فرنسا عن الأقاليم السورية الشمالية لتركيا الأتاتوركية.
حين استقلت هذه البلدان لاحقاً، اعتمدت خريطة سايكس - بيكو، لتعريف الحدود بين دول الهلال الخصيب: العراق وسورية ولبنان والأردن وفلسطين، التي ظلت ثابتة حتى وقت قريب، باستثناء، الكيان الصهيوني، الذي توسع عدة مرات بعد حرب يونيو/ حزيران 1967 .
أول إشارة أميركية، على الرغبة في تفكيك هذه الاتفاقية، وردت بعد حرب أكتوبر 1973 مباشرة، على لسان مستشار الرئيس نيكسون للأمن القومي هنري كيسنجر، فقد أشار إلى أن “إسرائيل” تمكنت مرة أخرى من إلحاق الهزيمة بالجيوش العربية، وأصبحت أكبر قوة إقليمياً، وقد حان الوقت لتكون الأكبر جغرافياً.
لم يتنبه أحد لمغزى تصريح كيسنجر في حينه، لكن تطور الأحداث، وتوالي تصريحات المسئولين الأميركيين أفصحت عن مكنون ذلك التصريح. ففي العام 1990 وعلى هامش مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، صرح وزير الخارجية الأميركي، جيمس بيكر، أن سايكس - بيكو قد تجاوزه الزمن، وكشف عن النية في إعادة صياغة جغرافية المنطقة، بشكل أكثر دراماتيكية، من تلك التي نصت عليها تلك الاتفاقية.
ومنذ ذلك التاريخ، بدأت تصريحات المسئولين الأميركيين تتوالى، معززة بخرائط توضيحية، عن خريطة الشرق الأوسط المنتظر تنفيذها. وإثر حادثة 11 سبتمبر في نيويورك وواشنطن العام 2001، بدأت الصورة تتضح أكثر فأكثر، وأزيح الستار عن النوايا الحقيقية لمشروع التفتيت. وكان الأبرز بين التقارير هو ما صدر عن “معهد راند” تحت عنوان “الاستراتيجية الكبرى”. وقد شارك في ذلك التقرير عتاولة الساسة الأميركية، مثل دان كويل وبريجنسكي، وأليكسندر هيغ وكيسنجر، وكثير غيرهم .
وقد رسمت إدارة الرئيس بل كلينتون، الخريطة المرتقبة للعراق، بمناطق حظر الطيران، في الشمال والجنوب، التي هيأت لقيام تشكيل ثلاث دول في أرض السواد. دولة كردية، وقد تحققت فعلاً، ولم يتبق سوى الإعلان عنها بشكل رسمي. ودولة فيما عرف بالمثلث السني، وقد تكفل تنظيم “داعش” بتشكيلها، في الأنبار ونينوى وصلاح الدين وديالى. وإذا ما وضعنا في الاعتبار، التصريحات الأميركية، بأن الحرب على “داعش” قد تستغرق ثلاثة عقود، فنحن أمام خريطة جديدة، سوف تتشكل بقوة الأمر الواقع.
أما في سورية، فإن الأوضاع أكثر دراماتيكية من مثيلتها في العراق. فهناك أمراء حروب، وحروب أهلية، بين عدد من المكونات. ولم يعد ما يجري في سورية ثورة شعب ضد نظام، بل حرب ضروس بين تيارات متطرفة. وإذا ما استمر واقع الحال، فإن ما سوف نشهده هو قيام دويلات صغيرة، كل دولة تتمترس في إحدى القلاع. والقضية في بلاد الشام، لم تعد مقتصرةً على تنظيم “داعش” أو جبهة النصرة، بل أعقد من ذلك بكثير.
في فلسطين، تشكلت ثلاثة كيانات، الكيان الصهيوني الغاصب، ودولة في الضفة الغربية تقودها السلطة الفلسطينية ممثلة في حركة فتح، وأخرى في قطاع غزة تقودها حركة حماس. ورغم الإعلان مؤخراً عن تشكيل حكومة وحدة فلسطينية، لكن الوقت لا يزال مبكراً، لتقدير ما إذا كانت هذه الحكومة سوف تستمر طويلاً، أم أن مصيرها سيكون الانهيار، كما انهارت محاولات تحقيق الوحدة الفلسطينية من قبل.
وأوضاع لبنان لا تسر أحداً، ونأمل ألا تتجه الأحداث نحو ما هو أسوأ. فعلى رغم أن المتطرفين، لا يسيطرون سوى على منطقة حدودية صغيرة، هي عرسال، لكن الدولة والجيش يبدوان حتى هذه اللحظة عاجزين عن استرداد المدينة، وطرد المتطرفين.
مشاريع التفتيت هذه لم تقتصر على الهلال الخصيب، بل شملت مناطق أخرى من الوطن العربي، خضعت من قبل لترتيبات مماثلة من قبل المنتصرين .
ما يجري الآن من تسعير للصراعات الدينية والقبلية، هو نهاية لاتفاقيات سايكس - بيكو، ولكن ليس بكنس الحدود، بل بتفتيت المفتت وتجزئة المجزأ، وهو بالتأكيد، بالضد من حقائق التاريخ والجغرافيا. والحرب على الإرهاب، ينبغي أن تسهم في حماية الأمن القومي العربي، وألا تؤدي إلى انهيارات في الجغرافيا. ولكي تكون كذلك، ينبغي ألا تكون صدى لمشاريع دولية مشبوهة، لا تضع في الاعتبار مصالح أبناء المنطقة، والحفاظ على الأمن والاستقرار فيها.
أي مجابهة عربية حقيقية للإرهاب، لن تكون مجديةً إن لم تكن في إطار إقليمي، ويكون على رأس أجندتها، استعادة روح العمل العربي المشترك، والتمسك بالمبادئ والأهداف والمواثيق التي تراكمت لعدة عقود وقبل بها القادة العرب. لابد من عودة الروح لمعاهدة الدفاع العربي المشترك، والأمن القومي العربي الجماعي. ومن غير ذلك، فإن جلّ ما سيتحقق هو تكريس للأمر الواقع، ومواجهة المزيد من الانهيارات.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4423 - الخميس 16 أكتوبر 2014م الموافق 22 ذي الحجة 1435هـ
الحماية والروح
وهل بقيت للمرحوم "العمل العربي المشترك" أية روح ...أما الأمن القومي العربي فتحولت إلى إدوات تفكيك وتمزيق وإرهاب وذبح ونحر وتفجير
ومن سببها غير أبناءها وغباءهم
نحن السبب شعوب وقادة وحكام دول تعمل على تمزيق دولة شقيقة ولك بما يحدث في سوريا يراد للعالم العربي كله ان يمزق بمال عربي ومن أشقاء همهم هو الحفاظ على دولهم فقط لكنها هي القشة التي ستقسم بلدانهم أيضاً فالغربي لا عاطفة له