ما يجب أن يُذكَر به الراحل العزيز العلامة الشيخ أحمد بن خلف العصفور «أولاً» هو أنه كان صاحب أخلاق رفيعة، وفي طليعتها تواضعه الجَم. فَعِلمٌ بدون أخلاق ولا تواضع لا وزنَ له ولا أثر. بل وكل شيء يمتلكه الإنسان، سواءً أكان مالاً أو جاهاً أو رئاسةً أو تأمُّراً يصبح هباءً إن لم يكن مقروناً بأخلاق تُجَلِّله، وتجعل منه سائداً بين الناس والمريدين.
جمعتني بالراحل علاقة كغيري ممن أكبروا فيه خلقه وعلمه وتواضعه. كانت البداية الحقيقية لتلك العلاقة، هي حينما كنا في زيارة إلى خارج البحرين قبل عقدٍ من الزمن. ورغم أن أيامها لم تزِد عن أسبوع إلاَّ أنها كانت نحتاً في صخر «الذاكرة» وغرفاً من بحرها في آن واحد. حيث تعرفتُ على الشيخ في تلك الرحلة عن قرب، حين استمعتُ وجلستُ معه ساعات طوالاً. وقد استمرت العلاقة معه بعدها باللقاء أو السؤال غير المباشر.
كنتُ أتوق إلى الجلوس معه متى ما كان الوقت متاحاً له. وكان الشيخ وبكل تواضع، ورغم فارق العمر بيني وبينه، والذي يتجاوز النصف قرن وبضع سنين، يخرج من غرفته ليأتيني إلى حيث أنا في الفندق نتبادل أطراف الحديث قبل أن يغادر ليخلد إلى النوم. وكم كان حديثه ممتعاً شيقاً، حيث كنتُ أمام ذاكرة يزيد عمرها عن السبعين سنة، وخبرة علمية وعملية لا حدَّ لها، حيث كان الراحل قاضياً شرعياً كبيراً، وخطيب منبر ورحَّالة، عاصر الكثيرين، وسمع ورأى ما لم نَرَه.
لقد وجدتُ الشيخ في تلك الزيارة وقد بدا عَلَماً يعرفه مَنْ هم في الأقاصي، وبمنازلهم المختلفة، بل إن كثيرين منهم كان يحمل معه للشيخ ذاكرة وأحداثاً، وعندما كنتُ أسأله عن ذلك، يُفسِّر لي بعضاً من تلك العلاقات التي مضى على بعضها أزيد من خمسين عاماً، باستحضار درامي للتاريخ، وكأنك تُمسِك به حياً مرئياً.
أيضاً، امتاز الشيخ أحمد بن خلف بن أحمد بن محمد بن أحمد بن الشيخ حسين العصفور بأنه صاحب بيان، لكنه بيانٌ تستسيغه وتُدركه جميع العقول والأفئدة، فلم يكن متكلِّفاً ولا متعالماً، وهو ما جعله قادراً على الولوج إلى عقول وقلوب أجيال متباينة في العمر والمنزلة العلمية، وحتى في الانتماءات الفكرية المختلفة.
وكان من سِمَاتِ خطابه العام، سواء الديني أو حتى المحكي الدَّارِج والتلقائي، أنه مؤثر جداً، خارقاً لِشَغَافِ القلب، حيث كان الراحل يجيد عملية الوصف، وتحديد معالم المكان والزمان وملحقاتهما الروحية والمادية، وتصوير المشاعر الإنسانية وتفاعلاتها الحياتية بطريقة لافتة، فيُحيلك تلقائياً إلى تلمَّس الواقعة وكأنك في أتونها أو بجانبها.
بل وفي غير مرة، ورغم أن الحديث يكون خاصاً بيني وبينه وحول أمور حياتية إنسانية ليست خاضعة لطقوس دينية، إلاَّ أنني كنتُ لا أتمالك أن أحبِسَ دمعة مترقرقة في عيني، عندما كان الراحل يَصِفها بشكل تراجيدي فريد، يُجلِّله بصوته الرَّخِيْم، مرةً بمنطوق مسموع، وأخرى بِهَسْهَسَةٍ مكتومة، على أثير خياله الواقعي، وقسمات وجهه المعبِّر.
لقد كانت قامة الشيخ وهيئته وشَيْب لحيته وما يتدثّر به من لباس متواضع في متناول عامة الناس، قد أكسبته هيبة ووقاراً وقبولاً وطلعَة بهيَّة قَلَّ مَنْ يُضاهيه فيها أحدٌ من علماء البحرين. ورغم دخول الشَّيْب على بياض شعره، إلاَّ أن وجهه لم تُرهِبه سياط التجاعيد، بل زاده ذلك صباحةً وجمالاً.
لكن تلك المكانة والمنزلة العلمية والاجتماعية، لم تجعله متكبِّراً ولا متعالياً، ولا مستهجناً أو مستصغراً لأحد، حتى ولو كانوا في عمر أحفاد أبنائه، بل كان مع الناس في فرحهم وتَرَحهِم، في يسرهم وعسرهم، وكان يصلهم، ويجلس في مجالسهم، ويأكل من مأكلهم، وكانت تلك سَجيَّته وسليقة روحه، لا يتكلَّف فيها البتَّة.
أيضاً، كان الراحل ورغم مكانته وشأنه، صاحبَ فُكاهة وطِيب مجالسة. وكان الوقت الذي يُقضَى معه لا يُخالطه الملل، بل تمضي الدقائق دون أن تشعر بها، حتى ولو استولدت القصةُ قصةً أخرى وأخرى. وكان ذلك أحد أهم ما لازم الشيخ من طبيعة، جعلت كثيرين يهْفُونَ إلى حيث يجلس ويقيم دون غيره، طيلة سنوات وحتى آخر عمره.
كنتُ أجد في طرائف الراحل أشبه بِمستَطرَف الأبشيهي في السرد والحوادث التاريخية القريبة، التي كان شاهداً عليها بنفسه ولم ندركها. ولَكَم كنتُ آمُلُ أن يتم نسخ هذه الذاكرة من صدره الطاهر وحافظته الواسعة إلى الورق والتدوين. فبدون الذاكرة لا توجد علاقة حقيقية مع المكان كما كان يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش.
وربما تأتي أهمية ذلك إلى ما هو أبعد من تدوين الأحداث الزمنية بشكل تقليدي، ليذهب باتجاه توصيف مَنْ أوجدوا تلك الأحداث، والذين هم البشر، وبالتالي، قراءة «فهم الحقبة السائد» حينها، وانعكاسات ذلك على واقع اليوم كارتباط طبيعي. وهو تصوُّر باتت العلوم الحديثة تتحدث عنه بشكل رئيسي في عملية رصد الزمن وأحداثه.
في كل الأحوال، فإن غياب سماحة العلامة العزيز الشيخ أحمد العصفور رحمه الله يُعَد خسارةً كخسارة الأبناء في فَقْد والدهم، فأبُوَّته قد ظَلَّلت البحرين بأكملها. هذه شهادة أضعها من واقع تجربة خاصة مع الشيخ الراحل رغم قصرها، فمن عاصره لسنوات طوال، هم الأقدر على سَبر الذاكرة.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4422 - الأربعاء 15 أكتوبر 2014م الموافق 21 ذي الحجة 1435هـ
رحم الله الشيخ العصفور
رحم الله الشيخ العصفور كان محبوباً من الجميع لانه ابتعد عن السياسة
رحمك الله يا شيخنا
أشكرك استاذ على هذا المقال المؤثر
محب للحقيقة
بارك الله فيك أخ محمد على هذا التأبين البياني، وكم هو جميل ان تحفظ للناس مقاماتهم وإسهاماتهم ، حتى وإن اختلفنا، فإن ذلك لا يعني سجل الانسان المشرف، خاصة مع شخصية قد وقع عليها الحيف مثل الفقيد الراحل قدس الله سره،
الى رحمة الله أيه الشيخ الجليل.
حقا خسارة والخسارة الأكبر هو بأن الشيخ في وفاته لم نسمع فقط الا قصص عن حياته وأخلاقه وتواضعه هذا الروايات مسلمه بها فهو مربي فاضل وابن علماء أجلاء ولا غرابه عليه فأسرة العصفور في جميع مناطق البحرين يمتازون بأيمانهم وأخلاقهم لان معدنهم طاهر ..الذي أقصده أين تراثه العلمي لقد خسرنا الشيخ وحصرناه في زاوية ضيقه .فقط قصص وقصص ..هذا شي مؤلم ، تاريخ طويل وجميل أين قضاه الشيخ المرحوم ..نعم نحن الشعب لم نستثمر الشيخ حق استثماره لا تظلموا الشيخ حتة في وفاته فهو ليس فقط لقصصكم البسيطة فأين تراثه العملاق.
إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق
الرسول الأكرم كان سيرة وقصصا : إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق .. فلا تتصوروا بأن ذلك أمرا عاديا . كذلك الحال بالنسبة للراحل العلامة فقصصه ومواقفه هي الغذاء لنا نحن الناس
نقف له احتراماً
قد نختلف معه في مواقفه ولكن لا ننكر اننا بفقده فقدنا عالماً جليلاً ، فرحمة الله الواسعة تضلله ...
كان كذلك
رحم الله أبا خلف, كان كذلك وأكثر
ولو كنت أستطيع البوح بما في نفسي لأضفت بعضا مما أعرفه عنه
رحمه الله
عليك الرحمة يا أبا خلف وأسكنك فسيح جناته
لكل من جلس مع هذا الرجل الكبير سيرى وعن قرب كيف أنه قريب من أضعف الناس ومتحسس لآلام الجميع
رحمه الله...
لقد كان الفقيد طوداً عظيماً و علماً بارزاً ، رحمه الله و رفع درجاته في الفردوس
احسنتم
كفيت ووفيت أستاذ محمد ورحم الله الفقيد