الظواهر الاجتماعية يصعب الاقتراب منها ونقدها، وتبيين أشكال الخلل والثغرات فيها، ولأنها تعتبر من المحظورات لم تنضج آليات نقدية محددة توجِّه التقييم والنقد لها.
قد تكون ممارسة كلٍّ من النقد الأدبي والفني هي المتاحة في أوساط المجتمعات المحافظة، التي لا تفسح مجالاً لممارسة النقد بمختلف أشكاله ونماذجه في مجالات مهمة أخرى كالفكر والسياسة والمجتمع.
ولا شك أن العاملين في مجالي الأدب والفن يستشعرون ضرورة النقد لتطوير أعمالهم، وأن جامعاتنا والمؤسسات الثقافية تعطي لذلك فرصةً للشعور بهذه الأهمية. ولهذا تصدر بين الفينة والأخرى دراسات نقدية لأعمال أدبية وفنية مختلفة، وتنتهي على رغم حِدَّتها أحياناً بقبول ورضا عام عن هذه الممارسة.
لقد تطورت بناءً على ذلك أدواتُ النقد الأدبي، وأصبح تخصصاً علمياً، له أصوله وضوابطه، وتجاربه ومجالاته. لكن عندما ننتقل إلى المجالات الحياتية الأخرى نرى أن هناك تغييباً واضحاً، وحصاراً مبرماً على أي شكل من أشكال النقد حولها.
الظواهر الاجتماعية المختلفة يصعب الاقتراب من مراجعتها ونقدها، وتبيين أشكال الخلل والثغرات والنواقص فيها. ولأنها تعتبر من المحظورات التي ينبغي عدم الاقتراب منها، لم تنضج آليات نقدية محددة يمكن أن توجِّه أساليب التقييم والنقد لها.
في المجتمعات المحافظة، تعتبر أية قراءة للممارسات والظواهر الاجتماعية أو نقدها تدخلاً سافراً في ثوابت المجتمع وخصوصياته، ويُصنَّف من يقوم بذلك على أنه يريد تعرية المجتمع ونشر غسيله. فظواهر مثل تنامي حالة الاستهلاك، وضعف التماسك الأسري، وتنامي معدلات الجريمة، وانفلات الشباب، وضعف الاهتمام بالتعلم، وممارسة الشذوذ، كلها أمثلة لقضايا اجتماعية شائكة قلَّما يتم تناولها ودراستها ونقدها.
وفي المجال الفكري أيضاً هناك عديد من التابوهات المحرّم طرحها ومناقشتها ودراستها، خصوصاً عندما تقترب من الشأن الديني، فلا يتمكن أيّ فردٍ من أن ينقد فكرة معينة ويناقشها بحرية، ولا يتاح المجال لطرحها وعرضها وتناولها حتى بصورة موضوعية.
ينقل أحد الشخصيات الدينية أنه توصل في بعض أبحاثه إلى آراء فقهية تخالف المشهور؛ كعدم حرمة الغناء، أو جواز حلق اللحية، وغيرهما، لكنه لا يستطيع المجاهرة بهذه الآراء وطرحها للنقاش والنقد بسبب غياب أجواء الحرية التي تسمح له بذلك، مع كونها قضايا شرعية وفقهية.
إن غياب ممارسة النقد في المجال الفكري هو ما يجعله آسناً وتلقينياً جامداً، وغير حركي أو قابل للتطور، مما يتسبب في تولُّد حالة انتقالية وراثية بين الأجيال وليس عن قناعة ودراسة وفهم واضح.
في المجال السياسي، يبدو الأمر أكثر تجلياً، حيث إن انعدام ممارسة عملية النقد والمراجعة حول مختلف المواضيع والأفكار والسياسات والبرامج، يجعل من الأفراد غير متفاعلين معها، ولا تعبِّر عن قناعاتهم ورؤاهم.
ففي المجتمعات التي تُوجِد قنوات للنقد السياسي، ترى أن الكلّ يبدي رأيه حول مختلف القضايا وبصور مختلفة، ما يؤدي إلى إنضاج عملية القرار السياسي وخروجه بصورةٍ تعبِّر عن قناعات شرائح أوسع من المجتمع، أما في المجتمعات المحافظة فإن غياب النقد فيها يؤدّي إما إلى العزوف عن المشاركة وضعف التفاعل، أو إلى التمرّد على هذه السياسات والبرامج ورفضها.
من المؤكد أن ممارسة النقد في مختلف مجالاته سيزيد من وعي المجتمع ومشاركة أفراده، وسيطوِّر من أداء مختلف الجهات، ويوفّر قناعات جديدة تتناسب مع تطور المجتمع، كما أن من شأنه أن يفتح الطريق أمام إبداعات أقوى وأكثر نضجاً.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الشايب"العدد 4422 - الأربعاء 15 أكتوبر 2014م الموافق 21 ذي الحجة 1435هـ