لا عمر ولا تاريخ للطائفية. قبل الدِّين والمعتقدات أخذت شكل تمييز في اللون والانتماء والنأي عن المشترك الذي كان مدخلاً لمثل ذلك التمييز. كلما ابتعد وانحسر المشترك كان ذلك بالنسبة إلى البعض تبريراً وسبباً لمثل تلك الممارسة.

قبل 64 عاماً من اليوم، وفي الشهر نفسه (أكتوبر/ تشرين الأول 1950)، وفي مجلة «صوت البحرين»، وبعد إجراء الانتخابات البلدية التي جرت في مطلع خمسينيات القرن الماضي، لم يتردَّد أحد الكتّاب والمثقفين التنويريين في بلادنا، (حسن الجشِّي) في التحذير من ذلك اللغم المدمّر؛ وخصوصاً مع كل ممارسة تمنح الإنسان شيئاً من حقه في الاختيار. لم يكن الفضاء العام الذي يتحرك من خلاله بعض المثقفين، ممهداً ومتاحاً، ولم يكن مبعث تشجيع وترحيب، تماماً كما هو في جانب يسير منه اليوم، وربما غداً. فمثلما لا يجد بعض البشر نِعَمَهم وسلامة أمرهم ومصالحهم بعيداً عن تلك الممارسة، يجد بعض البشر أيضاً أن سلامة الأوطان ونجاتها وحصانتها في التنبيه على خطورة تلك الممارسات، والتحذير منها، والتصدّي لها مهما كانت النتائج والكُلف.

يعالج هذا الملف مقالين كتبهما حسن الجشِّي، الأول في التاريخ المذكور، وحمل عنوان “الطائفية علَّتنا الكبرى”، والثاني “أعداء الشعب”، وكتبه في المجلة نفسها بعد شهر من صدور المجلة في سبتمبر/ أيلول 1950؛ أي في يونيو/ حزيران 1954، رجوعاً إلى مجموعة المقالات التي جمعها وأعدَّ لها وقدّمها الكاتب والباحث البحريني خالد البسَّام في كتاب “حسن الجشي... البدايات الشجاعة”، الصادر في العام 2007.

في المقال الأول “الطائفية علَّتُنا الكبرى”، يتكئ الجشِّي في المدخل على علماء الاجتماع في تفريقهم بين الاجتماع والجماعة، الأخيرة عابرة للحدود والأمكنة في الذهاب إلى شئونها، والأولى من المفترض أن تكون مستقرة، تقيم علاقاتها ونظرها وتعاطيها مع الحياة، بناء أو هدماً، إنجازاً أو تقدّماً، استهلاكاً أو تراجعاً، ليلتفت بعد ذلك إلى طبيعة المجتمع البحريني وقتها، ويرى أن كلاً “يعمل على شاكلته”، ونرى ذلك في إحدى فقرات المقال وهو يشرع في تناول واحد من أمراضه الكبرى، وعلله شبه المزمنة، والخطر الذي يهدد استقراره ووجوده وبقاءه (الطائفية). يقول الجشِّي: “في هذا الضوء ألتفت إلى مجتمعنا البحريني، فيرتد بصري وقلبي كسير. وجاز لي أن أتصوّر جسماً اختلّت وظائفه، وراح كل عضو فيه يعمل على شاكلته، فينبض القلب متى شاء، وتهضم المعدة متى أرادت، وتفرز الكبد صفراءها حين يطيب لها ذلك، وتستقبل الرئة الهواء تارة، وتسدُّ عليه المنافذ أخرى”.

انتخابات المجالس البلدية في الخمسينيات

في الخمسينيات من القرن الماضي، شهدت البحرين انتخابات لمجالس البلدية بالمنامة. بعد ذلك بست سنوات، عمدت الحكومة في تلك الفترة إلى إلغاء الانتخابات البلدية، وتحديداً في العام 1956، وتزامن ذلك مع “إعلان الطوارئ ذلك العام”. وبحسب الكاتب والصحافي منصور الجمري في مقالته “العمل البلدي في البحرين” التي كتبها بتاريخ 26 ديسمبر/ كانون الأول 1999، ونشرت ضمن أرشيف الملاحق بتاريخ 20 فبراير/ شباط 2013، فإن “حالة الطوارئ تلك تم تقنينها في العام 1965، من خلال إصدار قانون الأمن العام”.

بالعودة إلى مقال الجشِّي، الذي رصد وشخّص حالات تحشيد، وممارسات طائفية بغيضة في عملية اختيار أعضاء المجالس البلدية وقتها؛ أي قبل كتابة المقال، لم تكن الإجراءات التي تم اتخاذها فيما بعد بمعزل عن تلك الممارسات، بل ومهّدت لها في صورة أو أخرى. ولم يكن الجشِّي يكشف سراً خطيراً، بقدر ما كان جريئاً في تناول ممارسة ستكون محصلاتها ونتائجها على البلد بادية في زعزعة استقراره، واستهداف التفاته لعملية البناء والتنمية، وخصوصاً أن البلاد كانت تحت هيمنة الانتداب البريطاني، ولم يكن من مصلحته أن تكون مكونات البلاد على وئام والتفات وانتباه للأطراف التي تريد ضرب وحدته وتفتيت أواصره، والنيل من اجتماعه.

كان الجشِّي ينظر إلى ما يشبه المجتمع وقتها، باعتباره خدعة ذاتية يمارسها بعض الأفراد على أنفسهم وعلى من حولهم. لا يكون المجتمع مجتمعاً بالمعنى المنتج ما لم يكن مستقراً، وحين يتم استهداف استقراره عبر إحياء النزعات الطائفية والتمييزية فيه فإن ذلك المجتمع هو في حقيقته عبارة عن مجتمعات عدة متنافرة، بتنافر طوائفه والجماعات فيه، وتلك التي تغذّي نار الفتن في أوساطه.

“لو جاز لي - ولماذا لا يجوز؟ - لكان ذلك صورة واقعية لمجتمعنا البحريني، بل جماعتنا، فليس في البحرين - هذا البلد الصغير - مجتمع، وإنما هناك طوائف وجماعات متنافرة متنابذة، يتلظّى كل منها حقداً على الأخرى، وتسعى للكيد بها والنيْل من كرامتها، رغم ما نلمحه من صفاء كاذب بين الأفراد. فكأنما بين القيم ثارات... هذه حقيقة صارخة لا ينكرها إلا كل مكابر يتعامى عن الداء لأنه إلِف الداء، أو لأنه يَفْرَق من مبضع الجرَّاح”.

واقع لا يحتاج إلى تشخيص

ولا يقدم الجشٍّي تشخيصاً في مقالته تلك، والمقالة الثانية؛ إذا الواقع نفسه مباشر فيما يحدث من ممارسات، ولا يحتاج إلى الانشغال بالتشخيص؛ بقدر ما يقدم صورة واقعية لحقيقة الحال التي يتم التستر عليها والهروب منها، ومحاولة التبرؤ والنأي عنها، بينما هي قائمة وتعمل عملها في التفتيت وتوسعة الشّقة والخلاف بين أبناء الوطن الواحد والدِّين الواحد، وخصوصاً في الفترات التي يتاح فيها للناس ممارسة حقهم في الاختيار وتقرير الطريقة التي تُدار بها شئونهم؛ إذا تستيقظ تلك الأصوات النشاز من بياتها، وتجد في الفترات تلك فرصتها للتحشيد ضد من تراهم أغياراً ومختلفين وعلى مبعدة منها، سعياً وراء منافع ومكاسب ومصالح، تظل مؤقتة مهما طال بها الوقت، فيما المجتمع والأمة باقية ما بقيت وحدة كلمتها؛ وتجاوزت خلافاتها؛ وابتعدت عمّا يهدد استقرارها وطمأنينتها.

“من أشدِّ الناس فتْكاً بهذه الحياة التي نتوق إلى تحقيقها، هم هؤلاء الطائفيون الذين يبعثون بين حين وآخر، مسائل الخلافات الطائفية التاريخية من مراقدها، وينشرون هذا في كتب مبسطة للعامة، أو في مجلات رائجة بينهم. إن هؤلاء معاول هدّامة في كيان الحياة القومية، ومن واجب أولي الأمر أن يضربا (يضربوا) بشدة على أيديهم وأيدي أمثالهم من الكَتَبيين والناشرين، ويخرسوا ألسنتهم وأقلامهم لئلا تتسع شقة الخلاف”.

«أعداء الشعب»

المقال الثاني الذي نشره حسن الجشِّي في مجلة “صوت البحرين”، كان في يونيو 1954؛ أي قبل عامين من إلغاء الانتخابات البلدية. أورد الجشي أعداء أربعة، هي بمثابة عقبات تحول دون استقرار وتجانس وتواؤم المجتمع، وتعمل على جرّه إلى صدامات واقتتال، بعضه يظل ضمن حيّز المناكفات والتجريح والتسخيف ومحاولة النيل من قيمة وعقيدة كل طرف، ليتطور لاحقاً إلى حالات من الصدام المباشر، وإن قلّت صورها ووجودها؛ إلا أنها تطل برأسها بين فينة وأخرى.

في الملحق الذي يقدم خلاصة للمقال المذكور (نهاية الصفحة) يتم ذكر عدوّين، ليتولى الاستعراض ذكر الآخريْن، واللذين يجملهما الجشّي في: “هؤلاء الذين يجرون بالوشاية وترويج الإشاعة الباطلة، ليحبطوا كل محاولة للم الشعب وجمع الكلمة. وتجارتهم الخبيثة هذه ذات شقين: فهم يتظاهرون بالمحبة للجميع. ولكنهم لا يغادرون زيْداً من السنة حتى يزوّروا عليه عند عمرو من الشيعة ما لم يدُرْ بخلَده...”.

فيما يشخّص العدو الرابع للشعب في هذه الفئة الدخيلة “التي لا تربطها بالأرض التي تستهلك خيراتها أي وشيجة من إحساس، أو رابطة من تعاطف، سوى المصلحة المادية البحت. وهذه الفئة إما أن تقف موقفاً سلبياً من قضايا الشعب أو تناهضها سراً وعلانية، وبذلك تخذل هذه القضايا فتأمن من جانب الشعب الذي لن يتركها تنعم بخيرات بلاده، بينما يتقلّب هو في المسغبة، يوم يقوى عوده ويشتد ساعده”. ويكمل “إن هذه الفئة تعيش طفيلية على جسد الشعب. ومن حق الشعب بل من واجبه أن ينفض عن جسده هذه الطفيليات المغرمة بمصّ الدماء”.

64 عاماً تفصلنا عن المقالين، لكن كثيراً من ملامح الواقع الذي اشتكاه الجشّي وقتها، مازالت شاخصة ومعاينة وتتطاول وتمعن في الممارسة، وبأدوات أتيحت لها اليوم لم تكن بالأمس رهن الحصول عليها، وخصوصاً بتعدّد المنابر، والقنوات، ووسائل الاتصال والتواصل التي باتت تحرّكها أصابع في الشارع والمكتب والسيارة والبيت والمقهى، لترسم بذلك خريطة وواقع أن كثيراً مما حولنا هو صورة من صور الاجتماع وليس المجتمع!

خلاصة... «الطائفية عِلَّتُنا الكبرى»

«... فاللهم ألِّف شملهم، واجمع كلمتهم. وتحلُّ نكبة كالحريق مثلاً، بجماعة من الطائفتين فينبري القادرون من أفرادها إلى جمع الإعانات المالية من الطائفة نفسها، دون أن يُشركوا معهم أغنياء الطائفة الأخرى. والواقع أنهم لو فعلوا لما نالوا غير الخيبة المريرة، والرد غير المؤدب كما حدث ذلك مراراً بين الطائفتين، فكأنما نمنح المنكوبين عوننا لشيعيتهم أو سنّيتهم لا لإنسانيتهم! فانظر إلى أي مدى يبلغ التعصّب الطائفي بحيث يخنق العواطف الإنسانية، ويغلق منافذ الشعور دون الإحساس بالآلام البشرية إلا على أساس مشترك من المنزع أو المذهب! فشيئاً من المروءة يا قوم، أو قبساً من هدْيك يا رب.

وبالأمس جرت الانتخابات لمجالس البلدية بالمنامة فدسّ العنصر الطائفي أنفه فيها وحرّك فتناً خامدة وزاد شقّة الخلاف اتساعاً. وقبل ذلك قامت الحكومة بإحصاء عام للسكّان، فثارت ثائرة بعض الطائفيين حين علموا إن نية الحكومة متجهة إلى النص على مذاهب أفراد هذه الطائفة أو تلك على الأخرى. فما أصغرها من نفوس. وهذه الوظائف الحكومية يتصارع عليها أفراد الطائفتين، فإذا ظفر أحد منهم بمنصب مرموق من هذه المناصب، انطلقت الألسن تحتج وتتهم وتدعو بالويل والثبور، وإنْ أنسَ فلا أنسى قصة «دار الأيتام» وتركها طوال هذه الأعوام مسرحاً للحشرات ومرتعاً للفئران، انسياقاً وراء ضغائن وأحقاد طائفية! فثوبوا إلى رشْدكم يا قوم، واتقوا الله في مئات من الأيتام أهملتموهم، فاحتضنتهم أوكار السوء، ومزابل القمامة، ودور التبشير. هذا قليل من كثير أجتزئ به اليوم. ولي إلى الموضوع عودة. وبعد فعلام هذا الخلاف يا قوم؟».

خلاصة... «أعداء الشعب»

«... يبدو لي أن أولى تلك العقبات - في هذه الأيام - هي طبقة الإقطاعيين وذوي المصالح الخاصة، فهؤلاء يحسبون أن الأصوات المترنّمة بالوحدة والمساعي التي تبذل ليل نهار لتجسيدها حقيقة راهنة ملموسة، غنماً موجهة ضدهم، وأن الوحدة المنشودة إنما يراد بها أن تكون سلاحاً بتّاراً، يشهر في وجوههم وينتقص من مصالحهم وبحبوحتهم الضافية! ولهذا فهم لا يتركون وسيلة دنيئة إلا ويلجأون إليها لبث الفرقة في صفوف الشعب، ونشر الكراهية بين أفراده!!

أما أن الوحدة سلاح بتّار قاطع يغري كل من يحاول أن ينال منه فهذا شيء لا جدال فيه. وأما أن الغرض من تحقيق الوحدة هو الانتقاص من مصالحهم، فهم في ذلك واهمون! إن الوحدة المنشودة إذا ما تحققت ستكون دعامة راسخة يستند إليها المصلحون في تحقيق مصالح الشعب كله، فإذا انسجمت هذه الفئة مع الشعب وتخلّت عمّا ليس من حقها للشعب، فإن الشعب سيهادنها، وسيغضّ الطرْف عنها. أما إذا وقفت حائلاً دون تحقيق مصالح الشعب، فلا شك أن الشعب، وهو معتصم بوحدته، سيكون قادراً على أن يضع حدَّاً لهذا التلاعب بمصالحه، وسيعصف بكل من يعترض سبيله من أعدائه! وهذه الفئة هي أول أعداء الشعب.

أما العدو الثاني للشعب فهم أولئك الطائفيون المندسّون في صفوف الشعب في كل حيّ وفي كل مدينة وقرية. وبين هؤلاء - وهنا الطامّة الكبرى - بعض المعلمين والوعّاظ وخطباء المنابر، هؤلاء الذين يجب أن يكونوا لسان الوحدة المبين الناطق، لضرورتها وحيويتها لكل تقدّم مرتقب. ولا يفتأ هؤلاء يؤكدون لعامة الناس أن الخلاف بين الطائفتين هو خلاف في الجوهر، خلاف في صميم العقيدة، ولهذا فمن المستحيل أن يلتقيا في نقطة وفاق، أو يجتمعا على رأي موحّد، أو يتقابلا في جو الألفة والصفاء».