ترجل ( أبو خلف ) للموت حاملا عصاه، ومخلفا ليتامى كثر سيبكونه كما أبكاهم وأشجاهم. من لم يقف على أحمد خلف العصفور وهو ينعى الحسين في مجلس أو يندبه، فكأنه يغفل تاريخا بأكمله كان للشيخ العصفور بصماته الواضحة على هذا المنبر بصوته وأدائه الشجي، وبرحيله يرحل آخر أعمدة الرثاء والنعي الحسيني البحراني ومن قبله الشيخ حسن زين ، والشيخ حسن القيسي ، والشيخ أحمد مال الله والسيد جعفر الكربابادي. والشيخ حسن الباقري.

وطوال هذا التاريخ الطويل الذي صنعه الشيخ العصفور وابتكره حتى حذا حذوه خطباء آخرون جدد ساروا على طريقته ومنواله ، تمكن العصفور من المزج بين فن الخطابة العريق وفن ( الحديث ) وهي الفترة الفاصلة بين نعي المقدمة ونعي الخاتمة في المجلس الحسيني، وامتازت هذه المدرسة العصفورية في الخطابة – إن جاز التعبير – بعدة مزايا منها: أنها أتت على طريقة السهل الممتنع، والجمع بين عمق الفكرة وبساطة الشرح والتركيب، وتحديدا كان ذلك ( الحديث ) يتوجه إلى فئة المستمعين العاديين البسطاء، كما يتكلم بها رجال القرية في مجالسهم ودوواينهم.

أضف إلى ذلك قدرة هذا الأداء من الشيخ على التأثير العاطفي تجاه مأساة الطف وسيرة الحسين، باستثارة مواطن الوجع في السيرة والضغط على تلك المواطن لزيادة التفجع، وكان في هذا الأسلوب شبيه بالأسلوب النفسي في استعادة ذاكرة الألم لجعل الحالة تبكي وكأنها تعيش في تلك الذاكرة. وبقدرة الخطيب البارع كان الشيخ أحمد خلف العصفور يستثير الذاكرة بمزيج من القصيد الفصيح والشعبي، ويجعل القصيدة جزءا من الحالة ذاتها التي يعيشها مع المستمعين والنادبين.

يضاف إلى تلك المدرسة من الأداء الحسيني الاستعانة بالحكاية والسرد أو تحويل المروي إلى محكي وبذلك يجعل من عملية ( الرواية ) شيئا أشبه بالحكاية ويطعمها بالحدث المحكي فتدخل في نوع من التزامن مع الفاجعة والسيرة،،، ولم يكتف الشيخ فقط بحكائية المروي فحسب بل أحيانا كان يستدعي الشخوص ( شخوص الواقعة ) أو يستدعي ( الاستعارات والكنايات والمجازات في القصيد ) ويدخل في حوارية معها ومع الشاعر ذاته، فيضفي على المجلس الحسيني تفاعلا أكبر وتعاطفا والتحاما. وأعان على ذلك قدرة الشيخ العصفور كخطيب على فنون الكلام والبلاغة والمجاز ، فلم تكن القصيدة عنده مجرد إلقاء فحسب بل كانت معايشة ومواكبة لمختلف مفاصل وتعرجات القصيدة ، يصعد بصعودها ويهدأ بهدوئها، وفي البيت الذي يكون أكثر تفجعا في استعادة السيرة الحسينية، كان يعيده مرة أو مرتين أو ثلاث. إن ذلك التكرار لوحده كلما تمت استعادته ، كانت الذاكرة تطفح بوجع السيرة ويدخل المستمعون في جوّ من التوحد مع الحدث والتاريخ.

كان باديا أن القدرة على التأثير العاطفي واستدرار البكاء على الإمام الحسين قدرة لا تضاهيها قدرة عند الشيخ العصفور، وبسبب قدرته هذه كان تفاعله أحيانا في الموقف الخطابي الحسيني يرتد عليه كخطيب فلا يقوى على إكمال المجلس أو قراءة السيرة الحسينية لما فيها من الفاجعة، وأحيانا يبلغ التأثر والتعاطف من المستمعين بمجرد قراءته أو ابتدائه في النعي.

عرف عن العلامة العصفور اعتداله ووسطيته في شتى المواقف الاجتماعية والسياسية وكان بحكمته رجل توازن يحمل روحا وطنية عالية ، وحسا اجتماعيا مسؤولا، ويجسد قيم مدرسة أهل البيت عليهم السلام كما سار عليها الأئمة وانتهجوها، ولأجل ذلك فقد نال العلامة العصفور احترام الجميع وهو بحق أنموذج عالم الدين المصنوع بحرينيا وبختم بحريني مسجل لا يقبل التزييف. بفقد هذه العلامة الفارقة في المنبر الحسيني البحراني نكون قد فقدنا أبا وعالما ومعلما لن يجود الزمان بمثله، ولن يتكرر. وهي ميزة المبدعين في كل مجال وفن، فالإبداع قائمٌ على التفرد، والمبدع نسيجُ ذاته. فليرحم الله العلامة الشيخ أحمد خلف العصفور وليشمله برضوانه وغفرانه.