هل ما نراه هو بذات المقدار الذي لا نراه؟ لنتحدث بصورة أدق: هل ما تقع عليه أعيننا من أشياء وعلى مَدِّ البصر، كافٍ لأن يتشكَّل أمامنا العالم بكل ما فيه؟ الحقيقة، أن الجواب على هذا السؤال مهم جداً بغية إدراك التفسيرات السليمة للأحداث الجارية من حولنا.
فأكاد أجزِم بأن ما نراه لا يكاد يُشكِّل شيئاً يُذكر أمام الأشياء التي لا نراها. قبل أيام تحدثت شبكة «سي إن إن» عن أسرار المحيطات بشكل مخيف. تقريرها يشير إلى أن 70 في المئة من الكرة الأرضية تغطيها المحيطات، لكن 5 في المئة فقط من تلك المحيطات جرى مسحها.
وإذا ما أخذنا بذلك التقرير، وعلمنا أن مساحة سطح الكرة الأرضية هو 510.072.000 كم، فهذا يعني أن 357.050.400 كم من الأرض هي مياه. وإذا ما قلنا بأن 5 في المئة فقط من تلك المياه قد جرى مسحها، فهذا يعني أننا أدركنا فقط 17.852.520 كم ونجهل المتبقي الأكبر.
بالمحصلة، فإن البشر يعيشون على 153.021.600 كم من الأرض من أصل 510.072.000 كم، لكنهم أيضاً ليسوا قادرين على إدراك كامل الأرض التي يعيشونها، حيث لازالت غابات وأدغال في الأمازون جنوباً، وقمم ومرتفعات في جبال شاهقة شرقاً، عصيَّةً عليهم لأن يصلوها، فضلاً عن 339.197.880 كم من المياه التي لازال الإنسان عاجزاً أن يصل إليها.
نطرح هذه الأرقام ونحن نفترض أحسن الأحوال التي عليها الإنسان. بمعنى أننا نفترض أن الأشياء المادية التي نراها والأشياء التي لا نراها هي متساوية من حيث الكم والكيف، لكن الحقيقة هي غير ذلك، بمعنى أن كثيراً من الأمور تلعب دوراً كبيراً في حياة الإنسان، لكنها ليست متناسبةً لا في الحجم ولا في التأثير. فكم من أشياء «نظنها» كبيرة مرئية، لا تساوي شيئاً أمام أشياء «نظنها» صغيرة غير مرئية، وبالتحديد في قضايا السياسة.
ففي المسائل السياسية المرتبطة بالمصالح القومية والاقتصادية الكبرى، لا تظهر أمام غالبية الناس حقيقة تلك القضايا. وبالتالي فهم ينظرون لما هو شاخصٌ أمامهم على أنه دولاب الأحداث ومُحرِّك الكون، والباقي مجرد هوامش لا تقدِّم ولا تؤخّر. وربما عزَّز من ذلك التفكير الناقص مجيء ما سُمِّي بالربيع العربي مع نهاية العام 2010 في تونس.
فخلال الثورات التي جرت في أكثر من بلد عربي، اعتقد كل سياسي خَطَبَ في مايكروفون أن العالم ينظر إليه دون غيره. وأن أزمته الداخلية هي المدار الذي تجري على أثيره مجريات ومفاوضات الدول العظمى. لكن الأحداث دلَّلت على أن هذا الشعور هو مجرد وهم.
فأحداث الدول الداخلية لم تعد منفصلةً عن محيطها. بل إن النظام الدولي الجديد، الذي أفرزه انهيار الاتحاد السوفياتي، ثم احتلال أفغانستان والعراق، قد جعلا من حدود الدول مجرد علامات لاختلاف في الأرض ومسمياتها لا أكثر، لكن الحقيقة هي أن القرار السيادي للعديد من الدول بات متآكلاً، في ظل مجاورتها لدول كبيرة تستأسد عليها وعلى قرارها.
فالدول غير المتكافئة تنتج فيما بينها عادةً علاقات غير متكافئة، وخصوصاً إذا ما كانت متجاورة. فالميزان العسكري والاقتصادي والجغرافي والديمغرافي المختل، يجعل دولاً أسيرة «ضمنياً» لدول أكبر منها، سواء نتيجة للمساعدات الممنوحة لها، أو لأنها تكون إحدى أدوات «الخدمة الإقليمية» لها، حيث أن علاقات الدول تقوم على النفعية بامتياز.
وعادةً ما تكون مثل هذه التأثيرات ونتائجها غير مرئية لنا، كونها خاضعةً لقوانين السيادة، لكن مراقبة السياسات والمواقف تجاه الأوضاع الإقليمية والدولية، بل وحتى المعالجات الداخلية، تمنح أي مراقب القدرة على ربط الأشياء ببعضها كي يفهم ما يجري. لذا، فقد ظلت العديد من الملفات مُعطلةً عقوداً عديدة دون أن يوجد لها حل، كون المعادلة التقليدية لازالت متحكمة في مسارها، مع غياب التكافؤ والنِّدِّيَّة في مجالات مختلفة.
هنا، ربما نستحضر نظرية هنري كيسنجر في معالجة الملفات السياسية، والتي تقول بأن حل المشكلة يقتضي أحياناً توسيع قِطرها. بمعنى أن العديد من المشكلات هي مرتبطة بمسألة النفوذ القادم من وراء الحدود، وبالتالي فإن كانت هناك رغبة جامحة في حل قضايا متناثرة قريبة من بعضها في بقعة جغرافية محددة، وإن كانت ممتدة ومترامية الأطراف، يتوجَّب أولاً معالجة النواة الصلبة التي يتدفق منها التأثير على تلك القضايا الصغيرة.
بالتأكيد، قد تكون ضريبة ذلك كبيرة، لكنها تبقى الحل الأمثل للمشاكل السياسية بنظر بعض الدول. دعونا ندقق في الخطوة الروسية في شبه جزيرة القرم لكي نصل إلى ما تريده روسيا من ذلك، حيث التحكم في مياه البحر الأسود وصولاً إلى بحر مرمرة، كي تصل إلى مياه البحر الأبيض المتوسط، مادامت غير قادرة على الوصول إلى مياه الخليج العربي.
ودعونا ندقق في المسعى التركي الحثيث لإضعاف سورية وإمداد الحرب فيها، دون أن نفصل ذلك لا عن معاهدة سيفر للعام 1920، ولا عن حسم إحياء وتوسيع «نظرية الأمن التركي» التي يرى الأتراك أنه يمتد إلى حلب وحماة، فضلاً عن تقوية الخط الديني السياسي لأي حكم جديد في دمشق، ومواجهة أكراد حزب العمال الكردستاني.
هذا التفكير السياسي يمكن إسقاطه على العديد من الدول. وكل مراقب رامَ متابعة أي قضية إقليمية ودولية، سيكتشف كم من القضايا المكتومة التي تتحكم في مصائر الأحداث وبالتالي الشعوب والدول الهشَّة وإن لم يكن لها جعجعة.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4419 - الأحد 12 أكتوبر 2014م الموافق 18 ذي الحجة 1435هـ
قولان جميلان
نيتشه : احيانا لا يرغب الناس في سماع الحقيقة ، لأنهم لا يريدون أن تتحطم أحلامهم . . . . نعوم تشومسكسي : معظم الناس لا يعلمون ما يجري من حولهم و لا يعلمون حتى أنهم لا يعلمون
متابع
الحل عندي إذا التبست الحقيقة علي يوما ، أن أرفع يدي وأبين عجزي ( لأني إنسان في النهاية ) لخالق هذا الكون و أقول : اللهم اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم . . . . ( تعقيب صلاة الفجر المنسية )
متابع
أستاذ محمد نحن لا نرى جيدا في اليمن ، ممكن تكتب لنا عما حدث هناك بالضبط ؟ . . . . . . هامش : قبلة على جبينك السامي لإجابتك طلبنا بخصوص النفط الصخري والوضع الميداني السوري ، لو كانت كلمة أفضل من كلمة ( الشكر ) فهي لك . . و شكرا على هذا المقال الجميل و إن كان باعثا على الإحباط في معرفة الحقيقة ، لكنه يعلمنا أن لا نتهور و نتسرع في الحكم على حدث ، أو نتسرع في الإنحياز و الانضمام لجهة ما هنا أو هناك . . . الاحتياط واجب ( خاصة في هذا الزمن )
ما يراه الناس بسيطا يبدو عميقا
اجزم انك اردت الحديث عن البحرين والفكرة وصلت&&&
أفق كبير ومعلومات ثرية
يعجبني في مقالاتك أستاذ محمد أن بها أفق كبير ومعلومات ثرية تجعل القارئ في جو ثقافي جميل
thanks
nice mohammed
صدقت استاذ
والسبب الرءيسيي للحروب هذه الايام هو تجارة الاسلحه و انعاش اقتصادي الامريكي