العدد 4417 - الجمعة 10 أكتوبر 2014م الموافق 16 ذي الحجة 1435هـ

أصوات سردية تحيي أمسية في «كانو الثقافي»

أحيا ثلاثة من مريدي السرد أمسية قصصية في مركز عبدالرحمن كانو الثقافي، حيث قرأ كل من جبير المليحان، ومحمد البشير، وناصر الجاسم، حزمة من نصوصهم القصصية القصيرة والقصيرة جداً، وذلك وسط حضور مجموعة من المثقفين والأصدقاء ورواد المركز الذين تراوحت مداخلاتهم بين سجال تخلله الاعتراض على بعض المفردات، أو الإشادة بالمقروء من النصوص، وشيء من القراءة الانطباعية والتحليل السريع.

مثَّلت النصوص ثلاثة أصوات قصصية متنوعة قدمت صورة بانورامية للسرد بشكل عام والقصة القصيرة في السعودية، وخصوصاً أن الثلاثة ينتمون لأجيال قصصية متعاقبة، إذ يبري المليحان مؤسس ومدير موقع القصة العربية قلمه منذ الثمانينيات، فيما يقطف الجاسم ورقة التسعينيات، أما البشير فيغمس أحرفه في الألفية الجديدة. وعلى رغم أغشية التجييل وانتماء كل من الثلاثة إلى جيل سردي يمكن تمثله واستكشافه، إلا أن تداخل السمات، ولعبة التقنيات، يفضي إلى انفلات كل سارد إلى ما بعده من مراحل بخطوات وئيدة، ولعل هذا راجع إلى تشظي الحالة السردية، وتبدد سماتها في تخوم ما بعد الحداثة الماثلة في كثير من النصوص المقروءة.

سوداء كالقمر

قرأ البشير خلال الأمسية مجموعة من النصوص التي تعكس تعمقه في قراءة واستكناه شخوصه، والتي منها التلويح بالموقف من الأسود في الثقافة الشعبية كما في قصته «سوداء كقمر»، أو قصة «صه». تلك الذات التي تتعالى على الثرثرة؛ لتخلق لنفسها مكاناً رغبة في التعبير عن وجودها وحضورها ولو بصمت الآخرين والاستماع لها حتى لو كانت لا تملك ما تقول سوى التعبير عن الوجود في قبال الآخر الذي يفرض حضوره. بالإضافة إلى مجموعة من القصص الأخرى «القصيرة جداً» التي يتماثل بعضها مع حالة التململ الشعبي من السلطة التي واجهها الشباب خلال الربيع العربي، كما في قصة «رهاب المرتفعات». ففي مقابل النفي الذي ابتدأت به القصة هبت الجماهير تمنح ملهمها كل ما استلب منه، والذي ربما ورثه شيئاً من الضعة أو التعالي للتواضع، فما كان من هذه الجماهير إلا أن رفعته ربما لترتفع بها أو لتعوضه، فتشبث بمكانته منها فسقطت هي وظل هو عالياً فوق رأسها، وكذلك قصة «نملة.. كبرت.. كبرت.. كبرت.. وظلت نملة» حيث يعرّض البشير في هذه القصة بتضخم الذات في مقابل صغر الحجم والتناقض بين مخيال الرؤية الكاذبة ووهمها، وتبدده على صخرة الواقع، وكذلك قصة «تويتر دخل روائي.. طويل جداً.. خرج قاصاً.. قصير/ جداً». هكذا يلعب البشير على المتضادات ليخلق التكثيف الذي تنشده القصة القصيرة جداً عبر التناقض الذي يخلق التوتر في الشخوص ويرينا حجم المفارقة، وكثيراً ما يوظف الشكل في اللغة عبر التكرار وغيره من تقنيات، ولعل هذا ما برز في النصوص الأخرى التي قرأها من مثل «العنكبوت، والفيل، والهدهد، وغصنان من ذهب».

ركض الأشجار

أما القاص جبير المليحان الذي يحضر للمرة الثانية في مركز كانو الثقافي، فقد أدار الأمسية هذه المرة بنفسه، وخلالها أعلن عن شروعه في إنجاز رواية حدد الشهر القادم لطباعتها، ولم يحدد اسمها، وقد قرأ نصوصاً منها «صانع الملح، ويد، وحديقة، وثلاثة، ومنيرة، والمقعد» وأبدى المليحان خلال قصصه قدرة على التكثيف واللعب بالزمن، والإحالة على ما هو أبعد من الكلمات بلغة ثرية، إضافة إلى تناص دالِ على قراءة معمقة، كما في قصة «ثلاثة.. مشى فينا القطار، قهقه طفلي الجالس خلفي فرحاً، بركض الأشجار، التفتّ إليه، فإذا أبي يملأ كرسيه بالبكاء» فثمة ثلاثة شخوص هم «الطفل والجد والسارد نفسه والد الطفل» فبينما يضحك الطفل بمرور الأشياء والأمكنة من حوله، يتعاكس فعل الجد إذ يبكي لانفلات الزمن من بين يديه فثمة تضاد بين الإقبال والإدبار بين نظرة الطفل للمكان، ونظرة الجد للزمان، بينما يقف السارد مشدوهاً وسط الذاتين اللتين تمثلانه فيما سبق من طفولة وفيما سيأتي من كهولة، فذات الطفل ترى الأشياء تتحرك من حولها وهي المركز»فرحاً بركض الأشجار» بينما الجد مر عليه الزمن فكأنه يُنتزع من الأشياء، ولذلك فهو يملأ كرسيه بالبكاء والثبات فيه، وهكذا تتعاقب الثنائيات بين الكهولة والطفولة، والفرح والبكاء، والزمان والمكان، والحركة والثبات، والذات والآخر، أما لعبة التناص التي يجيدها المليحان فعبارة «ركض الأشجار» الصورة التي يراها الطفل من النافذة تحمل في طياتها الإحالة إلى كثير من النصوص التي تعاملت مع الحركة والثبات فالقطار هو الذي يتحرك بينما ذات الطفل التي ترى نفسها مركز الكون لا ترى ذلك بل ترى أن «الأشجار تركض» من نافذة القطار، وهذا فيه إحالة واختزان للكثير من النصوص التي تتحدث عن المسافة وكيف أن الأشياء تبدو هي التي تتحرك حين مرورنا بها متناسين أننا الذين نمشي بينها كما في عبارة الشريف الرضي فسالت بين أعناق المطي الأباطح، وغيرها من النصوص.

نحات التذكارات

أما ناصر الجاسم فبدا في سرده مهجوساً بالهامش والكلام عن الممنوع واجتياز الأماكن اللامسموح بحضورها وعبورها، بما يمثل ذلك من قدرة على الفرار من المتن والهروب للهامش، والتجرؤ على قراءة المناطق المسكوت عنها بإصرار وترصد، بالإضافة إلى قدرة على استبطان لحالات شخوصه والبوح بحكاياتهم على طريقته التي ارتآها، ولعل هذا ما أثار السجال بشأن طبيعة الألفاظ المستخدمة في النص، وحتى الأمكنة المطروقة ولعل هذه طبيعة المنطقة العذرية التي لم يمرر بها من قبل، دائماً ما تكون رهن الممانعة والترصد، وفي مقابل ذلك ثمة قدرة على البوح بالمسكوت عنه والمرور في المناطق العسيرة. وعكس الجاسم جرأة على رسم سيسيولوجيا الواقع واستكشاف خرائطه كما هو أو كما يتصورها الحبك الذي صنعه، وباحت به نصوصه، وقد بدا ذلك في نص «نحات التذكارات» الذي راح يسترزق من خط أسماء العاشقين والعاشقات، وراح السارد من خلاله يرسم خريطة الواقع بمختلف أثنياته ورموزهم «شيعة، سنة، ناصريين، مواطنين، أجانب» بالإضافة إلى عبارات المحبين وتغزلاتهم الخاصة ويواصل الاسترسال في تعداد التنوع الخفي والمتهرب منه في مقابل الوجه الواحد المفروض بقوة الواقع، حتى تم تدبير مكيدة له بتهمة بيع تماثيل شيطانية لمنعه من مهنته التي يهواها المجتمع المحافظ في السر ويهرب منها في العلن، وبين المتضادين السابقين دائماً ما يجري الجاسم سجالاته القصصية ويرسم خرائط الواقع الصادمة.

العدد 4417 - الجمعة 10 أكتوبر 2014م الموافق 16 ذي الحجة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً