انتهى موسم حج هذا العام ولله الحمد بأمن وأمان، واحتفل المسلمون جميعاً بحلول عيد الأضحى المبارك، أعاده الله علينا جميعاً بالخير والبركات، وعلى أمتنا الإسلامية بالتقدم والازدهار، وعلى أوطاننا بالأمن والاستقرار، وتقبّل الله أعمال الحجيج ومناسكهم.
بدايةًً، ينبغي لنا أن نشيد بالجهود الكبيرة التي بذلتها جميع أجهزة الدولة الأمنية والصحية والكشفية والدعوية وغيرها، التي لولاها لما تم تفويج ملايين الحجاج بيسر وسهولة بين المواقف المشرفة. وفي هذا العام –كما في الأعوام السابقة– برزت الجهود الإنسانية المشرفة لمختلف القطاعات الحكومية بارزةً للعيان في خدمة ضيوف الرحمن، والسهر على أمنهم وراحتهم لتسهيل أدائهم مناسك الحج.
في الحج تتمظهر عديد من القيم الإنسانية الكبرى، وتتجلى حاضرةً أمام كل من يشارك في أعمال الحج أو من يتابع هذه التجربة الدينية الفريدة من نوعها. لكن السؤال لماذا لا تغرس هذه القيم التي عايشها كل حاج في الأنفس بحيث تكون ممارسة دائمة ومستمرة في حياته بعد أن عاشها واقعاً ولأيام معدودات؟
في الحج تتجلى حالة المساواة بين الناس في أجمل أشكالها، فهذه التنوعات البشرية المختلفة والمتعددة لوناً ولساناً وجنساً ومذهباً وإقليماً، تراها جميعها تقوم بنفس الأعمال وفي نفس الأوقات وبصورة واحدة وبنداء واحد، ولا يوجد بينها أي تمايز على الرغم من تنوعها. بينما في الواقع ترى أن مثل هذه الصورة الجميلة تنعدم عندما يعود هؤلاء الحجاج إلى ديارهم حيث يرجع كل واحد منهم إلى تصنيفه الضيق، ويتعامل مع الآخرين على أساس التمايز عنهم، وممارسة التمييز ضدهم أحياناً.
وفي الحج يبرز نموذج الوحدة الإسلامية بين الحجاج على الرغم من كل اختلافاتهم المذهبية والسياسية وغيرها، فتراهم متجاوزين كل هذه التباينات والاختلافات البينية، بعيدين عن كل أشكال الرفث والجدال. ولكن في الواقع أيضاً تراهم يعودون إلى خلافاتهم السياسية بحدة غير معهودة وبطريقة نبذية طاردة، لا تسمح بأي مجال للاختلاف وإنما تنحو باتجاه الإقصاء ورفض المخالف.
يبقى الحجاج جميعهم متعايشين مع حالة الأمن والسلم الذاتي والمجتمعي، فلا يجوز لهم الاعتداء على أيٍّ كان، حتى على أي مخلوق ضعيف، فهو سلام روحي وأمن واطمئنان عام وشامل. لكن في مجتمعاتهم ترى بعضهم يتحاربون ويتقاتلون مستخدمين مختلف أشكال العنف وسبل الإرهاب، وضد بعضهم بعضاً، وبصورةٍ تفوق الخيال من الممارسات البشعة والممقوتة.
مدرسة الحج تربّي الإنسان على التواضع والبساطة في الحياة والتجرّد من مختلف أشكال الترفع والتعالي، ملبساً ومأكلاً وسلوكاً وخلقاً، لكن كثيرين أيضاً يلتزمون بها فترة الحج دون أن تنعكس على حياتهم العامة بعد ذلك.
إن في الحج من الدروس التربوية والعبر والتعاليم الأخلاقية والسلوكية شيئاً كثيراً، لكن السؤال هو لماذا لا يستفيد الحجاج من هذه التجربة الروحية والمعنوية والسلوكية، وتنتقل معهم إلى مجتمعاتهم المسلمة ويمارسونها بصورة مستمرة؟
تحوّل العبادات إلى ممارسات شعائرية ظاهرية تنتهي بانتهاء وقتها، ولا تصل إلى عمق الروح وتعدل من موازين السلوك الإنساني، هو ما تفتقده مجتمعاتنا بشكل عام. فبينما من المفترض أن تكون هذه التجربة الروحية الفريدة من نوعها مدرسةً تربويةً تعيد صياغة حياة ودور وسلوك الإنسان، نراها تُختصر في أداء بعض الشعائر بعيداً عن مضمونها الحقيقي ومقاصدها النهائية.
في ظلّ التحوّلات الهائلة والكبرى التي تهز مجتمعاتنا الإسلامية في هذه المرحلة، فإننا في أمسِّ الحاجة إلى تلمُّس دروس الحكمة والتجرّد من الأنانيات والعنصريات، والتأكيد على مبادئ السلم والمصالحة والأمن وحب الخير للناس، وهي من أهم القيم السامية للحج.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الشايب"العدد 4415 - الأربعاء 08 أكتوبر 2014م الموافق 14 ذي الحجة 1435هـ