في كل محطات الانتقال من نظام دولي لآخر تسود الفوضى والجموح ونزعات التوسع، ولن يوضع حد لذلك إلا حين يدرك الكبار أنه لا مناص من التوافق وتقاسم الحصص، كتلك التي حدثت بين المنتصرين بعد الحربين الكونيتين. الكون لا يقبل الفراغ، مقولة علمية تنسحب على السياسة، كما تنسحب على مختلف مجالات الحياة. وما يجري الآن من أحداث عاصفة، وبراكين عاتية، تعم معظم زوايا وطننا العربي المقهور، تعيد لهذه المقولة حضورها القوي، وتقدّم تفسيراً، وإن يكن غير مكتمل، لما يجري من أحداث جسام، بدأت منذ مطالع هذا القرن، وغدت أكثر حدة، منذ اندلاع ما عُرف بالربيع العربي، قبل أكثر من ثلاثة أعوام.
لقد جرى تناول مكثف لأحداث الربيع العربي، وما لحقه من ارتفاع وتيرة أنشطة المنظمات المتطرفة، لكن غالبية القراءات والتحليلات، تناولت الشأن المحلي، وعوامل القهر، وسيادة أنظمة الفساد والاستبداد، ولم تتناولها، في أبعادها الدولية، إلا في صيغة المشاريع الاستراتيجية الهادفة لإحكام قبضة قوى الهيمنة على هذه المنطقة.
سيتناول هذا الحديث، مسألة أخرى، لم يجر في يقيني التركيز عليها من قبل الكتاب والمحللين، وهي وضع ما جرى في سياق الصراع الدولي والتوازنات الإقليمية، وربط ذلك بالنظام الدولي السائد وإفرازاته، والمتمثل الآن في غياب أي ترصين في العلاقات الدولية.
لقد أكدت تجربة السنوات الأخيرة، أن أصعب مراحل التاريخ الإنساني هي محطات الانتقال من هيمنة قطب دولي إلى آخر. وكان ذلك هو ديدن أي انتقال في مراكز القوى، منذ تحقق الاجتماع الانساني، وسادت الإمبراطوريات.
يتبع أي انتقال رئيسي في مراكز القوى عادةً، انتقال في طبيعة النظام الدولي وتغيّر في ملامحه. مراحل الانتقال الأولى تتسم في الغالب باهتزاز في منظومة القيم، وبهشاشة في توازنات القوى، وبعدم التوصل إلى اتفاقيات تؤمن القسمة وتحقق الشراكة بين من يملكون المفاتيح في صناعة القرارات الدولية.
في تاريخنا المعاصر، شهدت البشرية، وتحديداً بعد هزيمة العثمانيين، بعد الحرب العالمية الأولى، أربع محطات رئيسة، تغيرت خلالها عند كل محطة من هذه المحطات، ملامح النظام الدولي.
شهدت نهاية الحرب العالمية الأولى، تنفيذ اتفاقية سايكس بيكو وإعلان وعد بلفور، ومبادئ الرئيس الأميركي ودرو ويلسون الأربعة عشر، المعروفة بمبادئ حقوق الإنسان. وقد أكدت حق الأمم في تقرير المصير. وكان أهم ملمح في تلك المحطة هو تأسيس عصبة الأمم، التي عكست توازنات القوى الدولية في أعقاب الحرب، ودخول مفاهيم جديدة في المعجم السياسي العربي، كالحماية والوصاية والانتداب. وقد عبدت اتفاقيات ما بعد الحرب، بين المنتصرين، الطريق لاندلاع الحرب العالمية الثانية، بحيث أصبح من المقبول توصيف الحرب الأولى بأنها حرب لم تكتمل.
هيأت نتائج الحرب العالمية الثانية لبروز نظام دولي جديد آخر، بعد اتفاقيات يالطا، التي وزّعت الغنائم بين المنتصرين. وكان أهم ملامح النظام الدولي الذي تشكل بعد الحرب، هو الإعلان الأميركي عن سياسة الباب المفتوح، وإزاحة الاستعمار التقليدي، وإعلان وفاة عصبة الأمم، وتأسيس هيئة الأمم المتحدة، لتكون معبّرةً عن توازنات القوى لحقبة ما بعد الحرب. ثم تبعها استعار الحرب الباردة، بعد امتلاك الأميركان والسوفيات لسلاح الردع النووي، واشتعال حروب التحرير في القارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وقيام الكيان الصهيوني، وانبثاق ما عرف بـ «كتلة عدم الانحياز».
انتهى النظام الدولي الذي شيد بعد الحرب الكونية الثانية، بسقوط الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية وتربع الولايات المتحدة على عرش الهيمنة الأممية، وتحكمها في قرارات مجلس الأمن الدولي، وغياب الترصين في السياسة الدولية، وعودة الاعتبار بقوة لمبدأ آدم سميث «دعه يعمل». فكانت فترة انفلات في العلاقات الدولية وخفوت للقيم السياسية، قيم الاستقلال والسيادة، التي دشنت إثر نهاية الحرب الكونية الأولى، وعودة للمكارثية بشكل أكثر حدة وشراسة، وامتهان القانون الدولي، وانتهاك سيادة الدول، وتراجع دور المنظمات الحقوقية، واحتلال أميركا لبنما وأفغانستان والعراق، وانتشار ظاهرة الإرهاب.
نحن الآن في بداية منعطف جديد بعد الأزمة الاقتصادية المعروفة بأزمة الرهن الأميركي، التي تحوّلت إلى أزمة اقتصادية عالمية، واكتساح التنين الصيني للأسواق العالمية، ويقظة الدب القطبي، وبروز تحالفات ومنظومات إقليمية ودولية جديدة، كمنظومة دول البريكس ومنظمة شنجهاي.
ملامح تعددية قطبية أخذت بالبروز، وصفها صامويل هانتينجتون بتعددية قطبية بقيادة أميركية. لكن التوصيف، من وجهة نظرنا، غير دقيق لأن شرط القيادة بين الدول الكبرى هو القبول، وهو ما دحضته أحداث جورجيا وأوكرانيا، والتصلب الروسي في وجه تغوّل القوة الأميركية، وعودة سباق التسلح من جديد بين الأميركيين والروس.
في كل محطات الانتقال من نظام دولي إلى آخر جديد، تسود الفوضى والجموح ونزعات التوسع. ولن يوضع حدٌّ لذلك إلا حين يدرك اللاعبون الكبار أن لا مناص من الوصول إلى توافقات وتقاسم للحصص، كتلك التي حدثت بين المنتصرين، بعد الحربين الكونيتين، على ضوء موازين القوى. عند ذلك فقط تنتهي الفوضى، ويجري ترصين للعلاقات الدولية.
وعلى هذا الأساس، فإن من المتوقع أن تستمر هذه الفوضى الكونية التي تعم وطننا العربي، ربما لأكثر من عقدٍ من الزمن. فهذه الفوضى في عددٍ من أوجهها تعبير عن تجاذبات إقليمية، وخلل في توازنات القوى وتسليم بالحقائق الجديدة.
وإلى أن يحين موعد توافق الكبار فسوف تتواصل هذه الفوضى، وستشهد منطقتنا المزيد من الأعاصير والبراكين، إلا إذا استطاع العرب أن يأخذوا مكانهم اللائق بين الأمم، في عالمٍ لا يحترم إلا قانون القوة.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4414 - الثلثاء 07 أكتوبر 2014م الموافق 13 ذي الحجة 1435هـ