هناك الكثير مما يفكر فيه ربيع زريقات حين يعمل مع أبناء غور المزرعة ويستكشف أسلوب حياتهم وتراثهم ونقاط ضعفهم وقوتهم، ساعياً إلى بعث طاقة متجددة في نفوسهم.
سمع ربيع زريقات عام 2007 ما أعلن رسمياً من أن قرية غور المزرعة، التي تقع في محافظة الكرك على حافة الضفة الشرقية للبحر الميت، هي إحدى جيوب الفقر في الأردن. فسارع إلى إطلاق مبادرة “ذكرى” في ذلك المجتمع الذي كان يكافح تحديات عديدة، تمثلت في قلة الدخل وفرص العمل، بل وفي نوع من التمييز بسبب لون البشرة الداكن لأفراده وتلك الصورة النمطية التي ألصقت بهم على أنهم فقراء كسالى. إضافة إلى ذلك، تعرض السكان عبر فترات تاريخية لظلم واضطهاد أجبرهم على التنازل عن أراضيهم لأشخاص متنفذين، وباتوا يعملون بأجر في ما كان ملكاً لهم.
قام زريقات بجمع مساعدات وتوزيعها على أهالي القرية. لكنه سرعان ما اكتشف عدم جدواها، وتحول إلى أسلوب يحفظ كرامة الإنسان فيما يحفز طاقاته وإمكاناته ويستفيد منها وفق شعار “نتبادل لنغير”.
شغف بالأرض والإنسان
لم يجد زريقات صعوبة في التحول عن حياة المدينة وصخبها نحو مساعدة مجتمع غور المزرعة الذي يضم نحو 21 ألف نسمة. فعلى رغم تخصصه الجامعي ونجاحه في عمله في مجال اتصالات التسويق، إلا أن شغفه بتاريخ بلاده وتراثها كان حافزاً له للتوجه بمبادرة ذكية تعتمد فلسفة بعيدة عن التعقيد لإعادة الثقة أولاً إلى أفراد هذا المجتمع. وقد وجد في أرضهم، على رغم فقر مواردها، ثراء في التاريخ وأسلوب الحياة وجمالاً طبيعياً شكلا أساساً لمبادرته.
تستند فلسفة “ذكرى” على إلغاء الفروق الاقتصادية والاجتماعية، من خلال برامج يتبادل فيها أفراد من المجتمعين الحضري والمهمش ما يملكون من قدرات وموارد ذاتية. ويقول زريقات إنه لابد من محو صورة الضحية المتمثلة في الفرد العاجز الفقير، واستغلال “نفوذ” المدينة في تحسين حياة هؤلاء الأفراد. وذلك بأسلوب من المشاركة ينتفي معه العبء النفسي الذي يرافق أشكال التبرع التقليدية ويحقق شعوراً بالراحة بين الطرفين.
وجد زريقات أن استدامة عناصر تنمية المجتمع تعتمد على حسن استغلالها، خصوصاً الحِرَف والممارسات التقليدية والتراث الشعبي والتجارب الإنسانية في حياة الأفراد. فكل مجتمع يملك مصادر قوة وثراء وإن افتقر للمال. وهكذا، في كل أسبوع، ينطلق برفقة عدد من المتطوعين نحو غور المزرعة، تدفعهم تلك الرغبة في مشاركة سكانها تجارب حياتهم اليومية بما يغني كلا الطرفين ويحفز النمو والإبداع.
سياحة وتدوير وإبداع ثقافي
تعمل مبادرة “ذكرى” على برامج متنوعة، تتضمن السياحة التطوعية التبادلية، والقروض الصغيرة، والتدريب على المهارات، وورش العمل الثقافية والفنية.
فمن خلال برنامج السياحة التبادلية، يتواصل السكان المحليون، ولا سيما السيدات، مع متطوعين وزوار محليين وسياح أجانب وطلاب مدارس وجامعات، يطلعون على حياة “الغوارنة” في رحلات ينظمها لهم أعضاء الجمعية لقاء مبلغ يتراوح بين 25 و30 ديناراً (35 ـ 40 دولاراً). يندمج القادمون في ورش عمل تفاعلية مع الأهالي، ويتعرفون على بيئتهم وتراثهم وممارساتهم وأهمية الأرض لحياتهم. تتخلل ورش العمل أنشطة تقليدية، كالمشاركة في قطف البندورة (الطماطم) وإعداد أطباق تقليدية والتجوال في المنطقة، إلى جانب تعريف الزوار بحرف يدوية كغزل الصوف، وصناعة الألبان، وتهديب الشماغ وهي حرفة تقليدية لحياكة الأهداب الطويلة لغطاء الرأس الذي يرتديه الرجال، وإعداد خبز الشراك التقليدي والكحل العربي وسلال من أوراق الموز وزينة من مخلفات بيئية.
يتم تحويل العائدات إلى قروض صغيرة بلا فوائد يستفيد منها السكان في مجالات متعددة. كما تستخدم في مشاريع اقتصادية واجتماعية وتوفير منح جامعية للطلاب. وقد ساهمت هذه السياحة التبادلية في تحسين دخل الأهالي، بل إن بعض الأسر أنشأ مشاريع صغيرة بواسطة القروض، كتربية النحل والدواجن وإنشاء الأفران التي تنتج الخبز والمعجنات التقليدية.
وفي مواجهة المشاكل البيئية التي تعاني منها المنطقة، كان لابد من نشر التوعية الصحية وفوائد التدوير وإعادة استخدام المواد. يقول زريقات: “التدوير فكرة راسخة في المجتمعات المحلية”، مشيراً على سبيل المثال إلى أن المرأة التي تغسل الأطباق لا تتخلص من الماء المستعمل، بل تستخدمه في ري المزروعات، ذلك لأنها تستخدم نوعاً من الصابون يخلو من المواد الكيميائية المؤذية للتربة والمزروعات. وفي العام 2012، عرضت الجمعية “سيارات” وأخشاباً وعلباً معدنية ومهملات أخرى من أسلاك وأخشاب وعلب معدنية ومهملات أخرى صنعها أطفال من غور المزرعة بدعم من شركة سيارات بهدف تنمية قدرات التطوير لديهم. وقام الفنانون الصغار بشرح تصاميمهم ونماذجهم للزوار.
تعمل مبادرة “ذكرى” أيضاً على تحفيز الإبداع والتفكير الحر والإنتاج الثقافي، ضمن برامج وورش عمل تتركز على الحرف التقليدية والرسم والتصوير وإنتاج الأفلام، بالتعاون مع أفراد وهيئات مختصة. وقد أوقظ ذلك مواهب فنية ربما كانت ستظل في طي النسيان، حين خاض عدد من الغوارنة تجربة التمثيل والتصوير والإخراج، مشاركين في إنتاج أفلام وثائقية مبسطة. وذلك بعد تدربهم على استعمال الكاميرا الرقمية وأدوات المونتاج ضمن ورش عمل للوسائل المرئية والمسموعة، وشراكة عقدتها المبادرة مع تعاونية عمّان لصناعة الأفلام المستقلة، بل إن عدداً منهم امتهن التصوير والكتابة والشعر بعد هذه التجربة.
تغيير معنوي واقتصادي
بعد مرور أعوام على انطلاق مبادرة “ذكرى”، يرى زريقات أنها تحقق تغييراً معنوياً واقتصادياً في المجتمع المحلي. ويتحدث عن طلاب يحصلون على منح دراسية تقدم لهم من هيئات ومؤسسات محلية ودولية، ويعملون في خدمة مجتمعهم أثناء العطل الدراسية.
في العام 2009، اختارت مجلة CEO Middle East ربيع زريقات كواحد من ألمع وأذكى ثلاثين رائداً تحت سن الثلاثين ممن يمثلون قيادات شابة عربية. وفي العام نفسه فاز بجائزة الملك عبدالله الثاني للإنجاز والإبداع الشبابي. وفي 2010 نال الجائزة العالمية World Travel Market Global Award عن برنامجه التنموي للسياحة التبادلية. كما حصل على زمالة أشوكا الهندية للرواد الاجتماعيين، التي تتيح له التفرغ ثلاث سنوات للعمل في مشروعه الذي اعتبر قابلاً للتطبيق في أماكن أخرى.
يرى ربيع زريقات أن المنطقة المهمشة ليست فقيرة بالضرورة، فمجتمعها قد يمتلك عناصر لا تتوافر في حياة المدن، مضيفاً أنه تعلم الكثير من الأفراد الذين يعمل معهم.
ما يحمله الكثيرون من ذكريات جميلة عن زيارتهم لمجتمع غور المزرعة ربما كان السبب في تسمية المبادرة “ذكرى”.
العدد 4413 - الإثنين 06 أكتوبر 2014م الموافق 12 ذي الحجة 1435هـ