العدد 4410 - الجمعة 03 أكتوبر 2014م الموافق 09 ذي الحجة 1435هـ

الحَجَر وجدحفص: المدن الدلمونية المفقودة

ناقشنا في الحلقة السابقة وجود حقبة زمنية غامضة في تاريخ البحرين تمتد قرابة 1000 عام بين الأعوام 3300 - 2300 ق. م. وقد أوضحنا أنه خلال هذه الألف عام استوطنت جماعات بشرية في البحرين وكونت مستوطنات أولية، كانت الأساس لنشوء الحضارة في البحرين. وقد عثر، في البحرين، على آثار تعود لتلك الحقبة الغامضة وذلك في ثلاثة مواقع أساسية هي: الحجر، وشرق كرزكان، وموقع معابد باربار. ومما يؤكد أن هذه الآثار تمثل أساساً أولياً لحضارة دلمون، أن الدراسة التحليلية لبعض الفخار الذي عثر عليه في القبر الذي يوجد في شرق كرزكان، توضح أن هذا الفخار صنع في البحرين وبنفس التقنية التي صنع به فخار دلمون (Laursen 2013). وهذا يدل على وجود مستوطنات أولية، سبقت المدن الدلمونية، وقد صنعت لنفسها فخاراً خاصاً بها، وبتقنية خاصة استمرت لأكثر من ألف عام، حيث أن فخار دلمون (أو فخار باربار) صنع بنفس التقنية.

إلا أنه، إلى الآن، لم يتم العثور على مستوطنات تعود لتلك الحقبة الغامضة. وهذا لا يعني بالضرورة عدم وجود مستوطنات وذلك بسبب نقص عمليات التنقيب المنظمة؛ حيث أن غالبية عمليات التنقيب كانت عمليات إنقاذ، حتى أن غالبية تقارير تلك العمليات لم تنشر بعد. أضف إلى ذلك أنه ليس بالضرورة أن تكون المستوطنات الأولية مبنية بالحجارة، فقد تكون على صورة قرى ساحلية بنيت بيوتها من جريد النخيل، واستخدمت فيها القوارب المصنوعة أيضاً من جريد النخيل، والتي بقيت في البحرين حتى عهد قريب، وتعرف محلياً باسم «الفرته». يذكر أن هذا الوصف أعطي للمستوطنات الأولية التي بنيت في شرق الجزيرة العربية (Rice 1994 p. 218).

مدن دلمون المفقودة

إن مسألة البحث عن المستوطنات الأولية، التي سبقت دلمون، في البحرين تعتبر شائكة، ولم يتم البحث فيها حتى الآن. والأكثر تعقيداً منها، مسألة البحث عن المستوطنات أو المدن الدلمونية. فقد سبق أن أشرنا في سلسلة مقالات سابقة أنه من المرجح أن دلمون كانت تتكون من عدة مقاطعات أو مدن صغيرة ولكل مدينة ملك محلي يحكمها. بالإضافة لوجود مقر الحكم الرئيسي في موقع قلعة البحرين والذي يوجد فيه قصر الملك الدلموني المطلق (Laursen 2008, 2010). وعلى الرغم من المساحة الشاسعة التي تغطيها تلال القبور والمنتشرة في العديد من مناطق البحرين، إلا أنه لم يعثر إلا على عدد قليل من المستوطنات أو المدن الدلمونية. وسوف نتناول تلك المدن أو المستوطنات بحسب موقعها في كل قرية أو مدينة عندما نتناولها بالتفصيل. وفي ما يخص المنطقة التي نحن بصدد الحديث عنها والتي بدأنا الحديث عنها في الحلقات السابقة، فهناك دلائل تشير لوجود مستوطنتين دلمونيتين فيها.

المستوطنة الدلمونية في الحجر

سبق أن تحدثنا عن التنقيبات التي قام بها الفريق التابع لمتحف البحرين الوطني في موقع الحجر الأثري، حيث تم التنقيب في سبع تلال أثرية. وقد كانت غالبية التلال تحوي قبوراً يعود تاريخها للحقبة 3000 ق. م. - 200 م. أما التل رقم 7 فكان يحتوي على مستوطنة دلمونية تعود إلى الفترة 2100 - 1800 ق. م.

وتتكون المستوطنة «من بيوت متفرقة بلغ عددها ستة عشر بيتاً صغيراً ويتكون كل بيت من مدخل على شكل دهليز يؤدي إلى فناء مكشوف تحيط به بين 3 و4 غرف ... بالإضافة إلى غرفة خصصت لتكون مطبخاً، كما وجدت مواقد في جانب كل فناء. ولقد استخدمت حجارة كلسية صغيرة ومتوسطة وخلطة تتكون من الطين والجص والرماد بنسب متقاربة في بناء جدران البيوت. وكشف تنقيب بعض البيوت عن وجود أحواض مجصصة قليلة العمق، أُنشأت قريبة من إحدى زوايا فناء البيت، يرى فريق التنقيب بأنها استخدمت لحفظ المياه ولغسل الأواني المنزلية. ولقد أكتشفت في البيوت مواد مختلفة اشتملت على أدوات لسحن وطحن الحبوب وكسر فخارية دلمونية وأغطية تعود لجرار تخزين على شكل كتل من الجص والحجارة. كما عثر على أوزان على شكل كتل دائرية مصنوعة من أحجار مختلفة وأوزان صغيرة الحجم، يرى فريق التنقيب بأنها ربما استخدمت لوزن اللؤلؤ، حيث لا يستبعد أن يكون سكان المستوطنة مارسوا مهنة استخراج اللؤلؤ، بدلالة العثور على كميات كبيرة من الأصداف من النوع الحاضن للؤلؤ (المحار) منتشرة بين طبقات الموقع الأثرية» (صويلح 2009، ص 324).

ولقد هجرت المدينة بعد العام 1800 ق. م.، إلا أن مدينة أخرى أنشأت بالقرب من موقع هذه المستوطنة؛ حيث تحول الموقع إلى مقبرة، وقد حفرت في المدينة قبور تعود للحقبة الكشية (1600 – 1200 ق. م.) (Denton 1999). وهذا يعني أنه ربما بنيت مستوطنة/ مدينة دلمونية أخرى في مكان ما قريب من هذه المنطقة. ونحن نرجح وجود هذه المستوطنة/ المدينة الدلمونية، التي تعود للحقبة الكشية، في مكان ما في جدحفص؛ حيث عثر على أثر يدل على وجود قصر لحاكم دلموني في هذه المنطقة، وهو الأثر الذي أكتشفه الكابتن Durand.

جدحفص: حيث قصر ريمون

كان الكابتن Durand يعمل في خدمة التاج البريطاني في ميناء بوشهر، وفي العام 1878م انتقل إلى البحرين في مهمة لاستكشافها وإعداد تقارير عن أهميتها من الناحية الأثرية، وقد اهتم تحديداً بتلال المدافن خاصة، وقام بفتح أحدى التلال ولم يعثر فيها على شيء. بعدها بدأ يستكشف المساجد القديمة في منطقتي جدحفص والبلاد القديم، غير أن Durand، لم يشر إلى جدحفص بل عمم اسم «البلاد القديم» على كلا المنطقتين، جدحفص والبلاد القديم، وذلك مقارنة بالمدينة الجديدة أو المنامة وقد أوضحنا ذلك في حلقة سابقة. وقد أستكشف Durand قرابة 20 مسجداً ولم يعثر فيها على شيء ثم سمع عن حجر يوجد في مسجد مدرسة داوود في جدحفص. كان الحجر من البازلت الأسود ويشبه الحذاء، وكان عليه نقش غير مفهوم، وعندما رآه Durand أدرك على الفور إن الحجر ذو أهمية أثرية، إذ توجد عليه كتابة مسمارية وعلى يسارها نقش لسعفة نخيل. ولكي يتمكن Durand من أخذ الحجر من المسجد، أخبر القائم على المسجد إن هذا الحجر وثن ويخص عبدة النار ويجب أن تتم إزالته من المسجد فوراً، وليثبت حسن نيته قام بالتبرع بمبلغ من المال لترميم المسجد. وتم نقل الحجر إلى مقر إقامة Durand.

وبعد انتهاء كابتن Durand من مهمته، قام بكتابة تقرير شامل عن أبحاثه في البحرين ضمنه دراسة عن الحجر. ولم ينشر هذا التقرير، بل نشر مقتطفات منه وذلك في العام 1880م. وملحق بهذا التقرير دراسة Rawlinson الذي قام بإعداد دراسة عن الحجر، حيث أكد فيها إن النقش عبارة عن جملة واحدة: (هذا قصر ريموم خادم الإله أنزاك من قبيلة أجاروم).

والمرجح أن هذا الصخر يعود للحقبة الكشية وأن ريموم ليس ملك دلمون المطلق بل هو ملك محلي (بوتس 2003، ج1، ص 469 - 470). أي أن ريموم يحكم إحدى مقاطعات أو مدن دلمون وأن له قصر وربما قام ببناء معبد للإله إنزاك. لقد ركزت الدراسات على الحجر والنقوش، ولكن لم تناقش بالتفصيل أين موقع هذا القصر، الذي لابد أن يكون محاطاً بأطلال وربما قبور تعود لنفس الحقبة. موقع قلعة البحرين يوجد بها قصر ملك دلمون المطلق وليس ملكاً محلياً لمقاطعة أو لمدينة صغيرة؛ وعليه نرجح أن يكون قصره وآثار المدينة التي يحكمها في منطقة ما في جدحفص، وهي المنطقة التي لم يتم التنقيب فيها.

لازالت هناك العديد من الأسرار التي توجد في هذه المنطقة الغامضة، جدحفص وجاراتها، والتي لم ينقب إلا في جزء بسيط منها. وفي الحلقات القادمة سوف نحاول الكشف عن بعض هذه الأسرار.

العدد 4410 - الجمعة 03 أكتوبر 2014م الموافق 09 ذي الحجة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً