يُجمع معظم المحلِّلين السياسيين على أن الضربات الجوية لـ «داعش» في العراق وسورية، من قبل التحالف الدولي الذي شكّلته الولايات المتحدة الأميركية، وضمَّ دولاً عربية وأوروبية، لن يُنهي وجود المجاميع والكيانات الإرهابية عموماً، ولن ينهي ما يسمى بالدولة الإسلامية في العراق والشام خصوصاً؛ تماماً كما هو الحال مع تنظيم القاعدة الذي يُكمل عامه الثالث عشر منذ الضربات الجوية ضد طالبان والقاعدة في أفغانستان بعد أحداث 11 سبتمبر 2001.
معظم مراكز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية تركِّز على أن مثل تلك الضربات قد تحدُّ من تمدُّده - وحَدّتْ فعلاً - علاوة على ضرب أهم مصادر تمويله وتنفسّه المتمثل في تدمير حقول النفط والغاز التي استولى عليها في البلدين، والتي تقدَّر مداخيلها اليومية ما بين مليونين وثلاثة ملايين دولار.
مثل تلك المجاميع والكيانات الإرهابية لا تنتهي بتدمير بنيتها الظاهرة من سلاح ومواقع وأفراد والتضييق على مصادر التمويل بتنسيق دولي؛ ووقف تدفق المقاتلين عبر الحدود، مع القرار الذي صدر عن مجلس الأمن مؤخراً وبات ملزماً لكثير من الدول؛ وخصوصاً تلك التي شرّعت الأبواب، وتغاضت عن موجات العبور وحملات التمويل. المشكلة تكمن في استئصال الفكر الذي وجد بيئات حاضنة ومتعاطفة معه، وتتوهَّم خلاصها الظاهر والباطن من خلاله، في كثير من دول الشرق الأوسط، وصولاً إلى أوروبا وأميركا.
مثل ذلك الفكر الذي تم الاشتغال عليه لعشرات العقود، وبات تمدُّده وسريانه أسرع من أي وقت مضى بتوافر هذا التنوع من سرعة الإيصال عبر مواقع التواصل الاجتماعي، من السذاجة بمكان الاطمئنان إلى سهولة انتزاع جذوره بضرب مواقعه وأماكن تواجده.
الفكر الذي وجد صمتاً في الترويج له عبر منابر وقنوات بعضها رسمي والآخر أهلي؛ من دون الاكتراث بالتبعات والمآلات التي سيفضي إليها؛ وحيناً آخر بدعمه بالوكالة، وحينا آخر - وهو الأخطر - في مناهج تلقّم للطلبة في سن مبكرة في مدارس حكومية وأهلية يكبرون عليها وقد قرَّتْ في وعيهم ومداركهم مواصفات أعداء جاهزين، في قتلهم واستباحة أموالهم وأعراضهم، الطريق الرحبة إلى الجنة والنعيم المقيم! مثل ذلك الصمت والترويج والدعم، هو الذي يأخذ ببشر هذه المنطقة إلى محارق تُعدُّ له، وتُنفق عليها مليارات الدولارات.
الفكر نفسه الذي امتدَّ وتغلغل إلى بعض الدول بممارسات تمييزية ضد بعض مكوّناتها. مثل ذلك الفكر ما لم يواجَه استئصالاً له من دون مواربة، ومن دون اللعب بالأوراق وخلطها؛ ومن دون ترك حاضناته تتحرّك بكل حرية ومباركة أحياناً؛ لن يتم القضاء على التنظيمات والمجاميع والكيانات الإرهابية وهي تمارس التطبيق العملي لذلك الفكر على الأرض.
لم يخرج مثل ذلك الفكر الإلغائي والدموي من بيئات مستوية في تعاملها مع الحقوق. لم يخرج من بيئات تُحكِّم القانون. لم يخرج من بيئات على صلة بالاعتدال وعلى مبعدة من التطرف على اختلاف أوجهه وأشكاله. لم يخرج من بيئات تحترم إنسانها وتضع له اعتباراً. خرج من بيئات لم تكتفِ باحتقانها فعمدت إلى تنمية ذلك الاحتقان والعمل على تراكمه. والنتيجة: مليارات ستنفقها كي تغيّر حرباً تدار وتشن بالنيابة عنها موازين القوى المختلّة أساساً، بعد أن أنفقت مليارات قبل ذلك في إرضاع وتربية واحتضان وإطلاق تلك الوحوش في هيئة بشر!
مسئول خليجي رفيع المستوى صرّح قبل يومين وبشكل مباشر موجّهاً كلامه إلى إحدى الدول؛ مشيراً إلى أنها وحدها قادرة على اجتثاث ذلك الفكر الذي سيأكل الأخضر واليابس.
الفواتير التي سيتم دفعها لن تنتهي. فمثلما دُفع جزء منها في العراق وشمال إفريقيا ومالي وأفغانستان وسورية؛ مرة لاستقطاب تلك المجاميع من شتى أنحاء العالم؛ ومثلما تم دفع فواتير الحرب بالوكالة للقضاء على تلك التنظيمات، وما سيُدفع مستقبلاً في محاولات الاحتواء، لن تغني ولن تترك أثراً طالما ظلت مرجعية ذلك الفكر مُصرَّحاً لها على المنابر والقنوات والمناهج. وستظل الضربات الجوية؛ وحتى الحرب البرية تقصف ما يشبه الأشباح التي تجد أرواحها ومَدَدها في ذلك الفكر والمرجعية الاستئصالية المتخلفة والدموية!
المليارات التي تم إنفاقها على إرضاع وتربية تلك المسوخ فوّتت فرصاً تاريخية ووجودية على شعوب المنطقة؛ بتعزيز خطط وبرامج التنمية الشاملة والتحديث على مستويات عدة، وسدّ بؤر وأسباب ما يجعل البيئات صالحة لاحتضان واستقطاب ذلك الفكر في اتجاهات متضادة؛ تكرس الانفتاح وثقافة التعايش مع الآخر والمكونات؛ دون أن يمس ذلك قناعات كل منها. كل ذلك يذهب في دورات يبدو أنها لن تتوقف في استنزاف الموارد، وحرق الفوائض المالية التي تأتّتْ من الطفرات العابرة لأسعار النفط! كما هي الطفرات العابرة في خيارات كثيراً ما تكون نتائجها شقاء وأزمات وأفقاً مسدوداً!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4408 - الأربعاء 01 أكتوبر 2014م الموافق 07 ذي الحجة 1435هـ