العدد 4404 - السبت 27 سبتمبر 2014م الموافق 03 ذي الحجة 1435هـ

عبدالخالق عبدالله في "اعترافات أكاديمي متقاعد"...

التقاعد من طبْع الأقوياء الباحثين عن مغامرة للوصول لغاية فكرية أرقى

لنبدأ بهذه المعلومة: تُعدُّ ألمانيا أول دولة في العالم تُدخل نظام التقاعد في العام 1880. تبعتها بعد ذلك ما يعرف بدول العالم المتقدم وقتها.
"تأكدت أن التقاعد هو من طبع الأقوياء وليس الضعفاء من الناس الذين يودُّون البدء بمغامرة جديدة للوصول إلى قمة أعلى، ومهمة حياتية جديدة، وغاية فكرية أرقى".
ذلك جزء من تناول طويل ومفصّل للتجربة التي خاضها أستاذ العلوم السياسية في جامعة الإمارات العربية المتحدة، ومستشار وحدة الدراسات في صحيفة "الخليج" التي تصدر من إمارة الشارقة، والمشرف العام على التقرير الاستراتيجي الخليجي، البروفيسور عبدالخالق عبدالله.
لن تقرأ كتباً كثيرة لمتقاعدين يثنون على هذه التجربة والمرحلة من حياتهم. تظل مرحلة التقاعد بالنسبة إلى كثيرين منتصف الطريق إلى النهاية (ذلك بالنسبة إلى أنصاف المتفائلين). بالنسبة إلى المُحبطين والذين لا يحتاجون إلى موضوع ومرحلة كي يُحبطوا، فيجدون فيها أول خطوة إلى القبر، أو على الأقل إلى النهاية كي نخفف وقْع الكلمة. وبالنسبة إلى المتفائلين والواقعيين، هي بداية لتجربة ومرحلة وتحول أكثر غنى في مسار الحياة يستحق أن يُواجه بثقة.
لن تقرأ كتباً كثيرة - عربياً - كي نكون أكثر تحديداً. في الغرب ستقرأ ربما عشرات ومئات الكتب وربما آلافاً من هذه النوعية. ببساطة: برامج التحضير لمرحلة التقاعد هناك تتيح للإنسان الناجح ربما حياة أفضل واستقراراً ورفاهية على مستوى النفس واكتشاف طاقات جديدة قد لا تكون بارزة ولم يتح لها الوقت الكافي كي تبرز؛ باللهاث اليومي وراء العمل والتزاماته.
في ممارسة النشاط الاجتماعي، والقيام بالأدوار الفاعلة ما قبل مرحلة التقاعد، يُمنح الإنسان قدرة على التكيّف مع المرحلة الجديدة من حياته. بمعنى: الدخول في تلك المرحلة، يعطي لتلك الأنشطة والأدوار فاعلية أكبر، وتعميقاً لأثرها، بما يتاح من وقت للتركيز عليها والدخول أيضاً في مشاريع جديدة سرعان ما تصطف في طابور طويل تنتظر الوقت لتنفيذها وتحقيقها.
بمعرفة شخصية وعن قُرب بأستاذ العلوم السياسية بجامعة الإمارات العربية المتحدة، عبدالخالق عبدالله، يمكن القول إن الرجل لم يكن يجد الوقت الكافي أساساً يوم أن كان أستاذاً في الجامعة كي يفي ببعض التزامات ونشاطات وفاعليات يظل هو من الأسماء الأولى المدعوة إليها. الرجل في حراك ونشاط دائم؛ سواء على مستوى الداخل بالعضويات واللجان والندوات والمحاضرات والمشاركات الداخلية والخارجية، والوقت القليل الذي يتاح له للتفرغ لأبحاثه. تعاطيه المختلف مع موضوع التقاعد لم يأتِ من ادّعاء ومحاولة مواساة نفسه، والظهور أمام العالم وقرائه بمظهر غير الذي هو عليه. أحسبه - بالنسبة لي على الأقل - بفعل نشاطه المستمر واهتماماته المتنوعة وطاقته التي لم تخفت حتى بعد سنوات من مغادرتي الإمارات؛ بل العكس؛ ازدادت ونمت وربتْ ونوّعت إنتاجها والحضور في كثير من المنتديات والمؤتمرات المحلية والإقليمية والعربية والدولية؛ تزامناً مع جهد بحثي لم ينقطع في كل تلك المشاركات وغيرها.
في كتابه "اعترافات أكاديمي متقاعد" الذي صدر مؤخراً عن دار "الفارابي" ببيروت، يقدم البروفيسور خلاصة اطمئنانه لتلك المرحلة من الحياة بكل وضوح وثقة "كنت أعتقد أن مرحلة التقاعد من العمل الجامعي ستكون مُملَّة، وقد اتضح لي أنه لا صحة لهذا الكلام، حيث اكتشفت وجود حياة نشطة وسعيدة مصحوبة بالمزيد من الحرية التي هي قضية حياتي، وتأكدت أن التقاعد هو من طبع الأقوياء وليس الضعفاء من الناس الذين يودُّون البدء بمغامرة جديدة للوصول إلى قمة أعلى، ومهمة حياتية جديدة، وغاية فكرية أرقى".

الانطباعات... فكرة الكتاب
يبدأ الكتاب بانطباعات حول زيارته؛ قبل صدور الكتاب، إلى العاصمة الألمانية (برلين)، لحضور اجتماعات "حوار الشرق الأوسط"، الذي يحمل عضويته. الدهشة التي اعترته من حفاوة الاستقبال. "أرسلولا" السائقة الشقراء التي تولت وضع حقيبة سفره في السيارة. في الانطباعات رفاهية أيضاً لم يعتدها بمعنى الاغداق في النبيل من السلوك. يمر على جلسات العصف الفكري في السيناريوهات المستقبلية المحتملة للمنطقة العربية حتى العام 2018، تلك التي تمت في الاجتماعات. كل تلك التفاصيل من الاستقبال إلى العودة أوحت بفكرة الكتاب.
في المقدمة نفسها يلقي عبدالخالق بخلاصة التجربة وتعاطيه معها؛ تمهيداً لتفاصيل منها سترد في الكتاب. ذلك ربما نوع من الإغراء كي تقرأ. الخلاصات في بعض الكتب في بداياتها ربما تبعث على الكسل مادمت قبضت على الخلاصة. طبيعة الموضوع الذي سنمر بتجربته يوماً هو الآخر بأسلوب تناوله ولغته المباشرة، نوع من الإغراء أيضاً كي نقرأ التجربة/ الكتاب.
"سنتان من التقاعد هما أسعد سنتين في حياتي. أعترف وأنا بكامل قواي العقلية: بأنني اليوم أفضل حالاً، وأهنأ بالاً، وأكثر نشاطاً، وأكثر حرية في اتخاذ قراراتي، وتحديد أولوياتي، وتحقيق أهدافي مما كنت قبل التقاعد"... "ورسالتي للجميع: تقاعدوا تصحّوا وتسعدوا ويأتكم الرزق والتقدير من حيث لا تحتسبون".
في المسألة تفاوت بين مواطن دولة وأخرى، وظروف دولة وأخرى. واقعها أيضاً. طبيعة التعاطي مع المتقاعد. ظروفه قبل وبعد تلك المرحلة. ربما لن يصغي كثيرون إلى تلك النصيحة حين يتعاملون مع كل تلك الحقائق بواقعية في البلدان التي ينتمون إليها.
في اللحظة نفسها من التقاعد يظل الشعور مختلفاً تماماً، ويبدو رد فعل طبيعياً؛ ريثما يهدأ الإنسان ويرتب أولوياته ويبدأ وضع واختيار شكل الحياة والتعاطي مع الوقت في تلك المرحلة؛ لذا حين عاد إلى دبي كتب تغريدة اعترف فيها: "إن قرار التقاعد من جامعة الإمارات هو أكبر حماقة ارتكبتها في حياتي" ليكمل "كنت صادقاً وعفوياً ومتأثراً باللحظة عندما كتبت هذه التغريدة".

التدرّج في السلّم الأكاديمي
تم تعيين عبدالخالق عبدالله بجامعة الإمارات العربية المتحدة بتاريخ 23 أبريل/ نيسان 1980، ليحصل على لقب معيد جامعي. كان من العشرة الأوائل الذين حملوا هذا اللقب في تاريخ الجامعة وفي تاريخ التعليم العالي وتاريخ الدولة. ارتأت الجامعة إرسال المعيدين لإكمال دراساتهم العليا في كبريات الجامعات الأميركية والأوروبية "لم يكن هناك أستاذ جامعي مواطن في كل الإمارات عندما تأسست الجامعة". همُّ توطين كوادر هذا المرفق المهم والحساس كان ضمن خطط التنمية الشاملة التي لم تكن موضوعة أو مكتوبة؛ على مدى بعيد؛ لكنها كانت في صميم الوعي بأهميتها والدور المفصلي الذي ستلعبه بعد سنوات في مستقبل الدولة الشامل.
يطح البروفيسور عبدالخالق نقطة في غاية الأهمية. الفارق بين المواطن الصالح والموظف الصالح. اهتمام معظم دول العالم اليوم ينصبّ على الأخير. الدول المستتبة في قوانينها وتفعيل المواطنة يمكنها تحقيق الاثنين معاً. "لم تكن مهمة الجامعة منحصرة في التدريس فقط؛ بل تخريج المواطن الصالح الذي يختزل الوطن في قلبه ووجدانه وفكره".

من هندسة البترول إلى العلوم السياسية
البعض يتعاطى مع التدريس باعتباره وظيفة تؤمّن له نقلة ووضعاً معيشياً أفضل، وخصوصاً في مجتمعاتنا التي ولدنا فيها. قليلون أولئك الذين يتجاوزون تلك الدرجة من التوجُّه والتفكير. البروفيسور عبدالخالق كان ينظر إليها باعتبارها وظيفية حياتية. لتلك الوظيفة دور يتجاوز المكاسب التي ستترتّب على تلك الوظيفة، امتداداً إلى المجتمع في عمومه عبر الأدوار والوظائف والمواقف التي يمكن أن يقوم بها ويبادر إلى تبنّيها. هو نفسه يقول: "لم أخطط لأصبح أستاذاً جامعياً ولم تخطر في بالي وظيفة التدريس الجامعي (...) عندما حصلت على شهادة الثانوية العامة، وكان مركزي الأول على دفعتي من المواطنين في القسم العلمي بثانوية دبي، كان حلم حياتي أن أصبح مهندساً، وحصلت على بعثة من وزارة التربية والتعليم لمواصلة الدراسة الجامعية في مجال الهندسة البترولية (...) التحوُّل من دراسة الهندسة إلى تخصص العلوم السياسية جاء سريعاً، وكان بحق مصادفة من مصادفات التاريخ والحظ السعيد، وقد اكتشفت لاحقاً أن المصادفة تقرر مصير الإنسان أكثر من التخطيط مهما كان دقيقاً وفذّاً".

مساقات... وكتاب من 40 ألف نسخة
للذين قرؤوا كتاب عبدالخالق عبدالله "العالم المعاصر والصراعات الدولية"، الذي صدر ضمن سلسلة كتب "عالم المعرفة" في دولة الكويت، وطبع منه 40 ألف نسخة، ربما لا يعرفون أنه كان تطويراً وتعميقاً لمحاضرات مساق قضايا دولية معاصرة قام بتدريسها في الجامعة مدّة أربع سنوات. يقول عبدالله إن الكتاب انطلق "من مقولة: لا تدع الشجرة تحجب عنك رؤية الغابة، وكان الهدف التعريف بأزمات العالم المعاصر وصراعاته، والتعرف إلى القوى الكبرى التي تتحكَّم في تطور النظام السياسي العالمي وتحدّد مساره ومستقبله. لكن الغاية الرئيسية من هذا الكتاب الذي استغرق ثلاث سنوات من البحث والقراءة المكثفة هي تعزيز الشعور بأننا جميعاً نسكن في كوكب واحد وننتمي إلى عالم واحد ومصيرنا واحد وهمومنا وقضايانا واحدة".

تغيرات طالت الجامعة
لم يكْتفِ البروفيسور عبدالخالق عبدالله بدوره الأكاديمي. هو واحد من الناشطين الحقوقيين، يتجاوز في جرأته أحياناً ما هو متاح من هامش في بلده. حضوره المتكرِّر في القنوات الحوارية مشاركاً أو متداخلاً لا يخلو من جرأة وما يشبه التطرق إلى موضوعات هي مصدر إزعاج حيناً، ومحاسبة حيناً آخر. ربما يحضرني اسمان في هذا المقام: الأكاديمية ابتسام الكتبي وعبدالخالق عبدالله. أعني هنا الذين مارسوا نقدهم في حدود ما ومازالوا - وقتها - يمارسون عملهم وانخراطهم في مؤسسات الدولة.
يتطرق عبدالله في كتابه إلى التحولات التي طالت جامعة الإمارات، وهي تحولات أخذت بها إلى التراجع. تناول استقطاب الأكاديميين الأجانب وخفوت الاهتمام بالكفاءات الأكاديمية المواطنة. ذلك أمر لم نعرفه قبل 20 عاماً يوم كانت الإغراءات تتوالى لاستقطاب الكفاءات المواطنة واحتوائها في واحد من أهم معامل إنتاج النخبة من الكفاءات.
"بدأت جامعة الإمارات تتغيّر في السنوات الأخيرة، ولم تعد جامعة أيام زمان. لقد أخذت الجامعة تتجه في اتجاهات غير سارة، وكانت هذه التحولات من بين الأسباب الدافعة للتفكير في التقاعد (...) فجأة وبدون مقدمات وحوارات واستعدادات قررت الجامعة الوطنية الأولى، التي كانت معقل ومصهر الهوية الوطنية التخلي عن اللغة العربية في التدريس، واتخذ قرار مدهش بتحويل المناهج والمقررات والمساقات كافة إلى اللغة الانجليزية".
ويضيف في الكتاب "... وكأحد مترتبات التحول إلى اللغة الانجليزية كان لابد من الاستعانة بكوادر أجنبية للتدريس في الجامعة. أصبحت الجامعة فجأة تعجُّ بالأجانب من كل الجنسيات (...) واختفى الأستاذ المواطن والعميد المواطن والمدير المواطن ورئيس القسم المواطن والإداري المواطن من الجامعة".

الصحافة... الربيع العربي
انخرط عبدالخالق عبدالله في مجال الصحافة برويَّة. كان يرى هذا القطاع مكمّلاً للعمل الأكاديمي الملتزم؛ على رغم قناعته بأن "القيمة الحقيقية للأكاديمي والأستاذ الجامعي ليس في ما ينشره في الصحف اليومية؛ بل ما ينشره من بحوث ودراسات في الدوريات الجامعية المحكّمة".
مع التحوّلات التي جاء بها الربيع العربي؛ تكون للتفاعلات معها أو ضدها انعكاسات على الرؤية من خلال ما يتم تناوله أو تحليله وقراءته. لم يكن البروفيسور عبدالخالق بمنأى عن تلك التحولات. يعترف هنا "بأنني تفاعلت مع الربيع العربي بحماسة فكرية ووجدانية واعتبرته نهاية حقبة الركود السياسي العربي ونهاية عصر الاستبداد العربي (...) وعلى رغم الانتكاسات اللاحقة أعتقد أن الربيع العربي خطوة إلى الأمام وليس خطوة إلى الخلف في التاريخ العربي المعاصر".
ويكمل في هذا الشأن خلاصة موقفه من ذلك الربيع بالقول: "يظل الربيع العربي هو حديث الساعة وقضية اللحظة والحدث الأبرز في التاريخ العربي المعاصر، وشاءت الصُدف أن يتزامن بروزه مع بداية فصل جديد في حياتي كأكاديمي متقاعد. جئت إلى الربيع العربي متقاعداً واستأثر باهتمامي البحثي والفكري أكثر من أي موضوع. ولا أخفي أنني استبشرت خيراً بالربيع العربي ورافقت تطوراته، وراقبت تقلباته وتابعت تعرّجاته".
موضوعات كثيرة وتجارب أكثر تناولها الكتاب، من بينها العمل التطوعي وتراجعه والخيارات التي انخرط فيها. تجربته مع الإعلام المرئي التي استمرت سنة من خلال برنامج "المشهد هذا الأسبوع" على شاشة تلفزيون دبي وتوقفه مع الحلقة الأخيرة التي لم يتم بثها وتناولت الصحافة وحرية الصحافة في الإمارات؛ على رغم السقف العالي الذي تم منحه إياه.
تناول الكتاب أيضاً عضويته ونشاطه في مجلس دبي الثقافي، وندوة الثقافة والعلوم بدبي، وحصوله على جائزة شخصية العام الثقافية، وغيرها من الموضوعات والتجارب الثرية بحق.
كتاب ممتع، تميّز بأسلوبه السهل. الانتقال من تجربة إلى أخرى. الفترات الزمنية كانت في تفصيلها تشد القارئ وتقدم صورة تقريبية لدور كبير وفاعل ساهم فيه الأستاذ الجامعي المرموق؛ وما لم يذكره من تلك التفاصيل والسنوات قد يكون مدخلاً لكتاب آخر.
بقيت الإشارة إلى أن عبدالخالق عبدالله، يحمل دكتوراه من جامعة جورج تاون في العلوم السياسية. نشر العديد من الكتب أبرزها كتاب "العالم المعاصر" وكتاب "النظام الإقليمي الخليجي" وكتاب "حكاية السياسة".
له أكثر من خمسين دراسة نشرت في دوريات محكّمة باللغتين العربية والإنجليزية، آخرها دراسة مطوّلة بعنوان "لحظة الخليج في التاريخ العربي"، إضافة إلى ذلك، فهو رئيس اللجنة الثقافية بندوة الثقافة والعلوم بدبي، وعضو مجلس أمناء المجلس العربي للعلوم الاجتماعية، وعضو اللجنة الاستشارية لمجلة "العلوم الاجتماعية".





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً