العدد 4403 - الجمعة 26 سبتمبر 2014م الموافق 02 ذي الحجة 1435هـ

قراءة في قصة «تماثيل» من مجموعة «ليتني تعريت للمطر»

الرمزية والدلالة عند مالك القلاف

شكلت المدرسة الرمزية منذ القرن الثامن عشر وامتدادها عبر القرن التاسع عشر في أوروبا منبعاًَ من منابع الفن والأدب باعتبارها امتداداً وجودياً رؤيوياً للحياة الاجتماعية بما يجتاحها من انكسار وظلمة تعمقت مع الحربين العالميتين. وساهم في تعميق تلك المدرسة كل من الأدباء والشعراء من جيل الرواد (شارل بودلير، بول فرلين، رامبوستيفان مالارمية، اليت... وآخرون). ويبدو كما يقول مورياس أن «الرمز يحاول أن يلبس الفكرة المطلقة شكلاً محسوساً... شكلاً ليس غاية في ذاته ولكنه يستهدف التعبير عن الفكرة وفي الوقت نفسه يظل موضوعاً لها».

لم تكن الرمزية قاصرة على الشعر فقط بل هي مذهب أثر على كل أشكال الفنون، ومنها القصة القصيرة، والتي سنحاول معالجة بعض مظاهرها التي نراها متجلية في قصة «تماثيل» للقاص السعودي مالك القلاف. على أننا يجب ألا نغفل تلك الحالة التي تكون فيها العلامة الإشارية تحمل مدلولات متفق عليها. إلا أن الفن يحرك تلك المدلولات في اتجاهات مختلفة ويترك مساحة كبيرة للتأويل، نذهب في اتجاه وندرك أننا يمكن أن نكون أغفلنا اتجاهات أخرى يمكن قراءتها.

نهر الحكاية

تحمل حكاية «تماثيل» في بنيتها الحكائية خبراً عن رجل عجوز تعشعش النوارس في صدره ويهوى النحت منذ نعومة أظفاره، فكان أول تمثال نحته يجسم صورة أمه، وعندما يتطاير كل شيء من رأسه تظل رأسه فوق كتفيه، يصنع العجوز تمثالاً لزعيم الثورة الذي أرجع لشعبه كرامته وأبقى الرؤوس فوق الأكتاف. مرت أربعون عاماً ومازالت التماثيل تحرس الدكان، الأم رحلت والزعيم خلالها، وطارت النوارس التي جعلت صدره ميقاتاً وقلبه محجاً لها إلى غير رجعة. طار كل شيء إلا رأسه ظلت في مكانها، يضعف بصر وتخور قوى العجوز فتقلّ جودة تماثيله رغم كثرة الطلب. وتحت وطأة رغيف الخبز، قرر العجوز أن يبيع أحد التمثالين، واحتار في أيهما يبيع. وبما أنه مفتون بفكرة فناء (الأم) وبقاء (الأمة) فباع تمثال الأم لرجل أشقر ذي ابتسامة باردة، يعد العجوز النقود بعينين دامعتين، تتجمع خفافيش الظلمة في الحانوت، تكبله بتهمة (التواطؤ)، والدليل ذلك الرمز الثوري المنتصب على عتبات الباب، الدراهم تتطاير ويتدحرج رأس العجوز ساقطاً إلى جانب التمثال.

خريطة للنوارس الضالة

لعل ما يلفت النظر هو ذلك الاستخدام المتوالي للنوارس باعتبارها رمزاً يعمل داخل القصة، وهو من المرموزات التي كثيراً ما يشار إليها في الشعر الفلسطيني، طائر النورس لعله يرمز إلى الحرية، ذلك الطائر الذي لا تستطيع أعتى العواصف البحرية أن تغرقه حتى لو استمرت طويلاً نسبياً، كما أنه طائر مهاجر في بعض أجناسه، يعود بذاكرة حديدية للأماكن القديمة حتى لو طمرت تحت الماء، إنه ارتباط متجذر بالمكان.

ذلك الطائر استخدمه مالك القلاف في هذه القصة لأكثر من دلالة، أولها أنه كطائر مستوطن يستوطن فعشعشت في قلب العجوز النوارس، ولكنه طار باعتباره جناحاً للإبداع بعد أن نحت صورة أمه. ولكن هناك ما تحول في العجوز ذاته وقد أشار القاص إلى ذلك باستخدام النوارس أيضاً «حتى النوارس التي كانت قد جعلت صدره ميقاتاً لها واتخذت من رأسه قبلة تحج إليها كل ما تعبت من ترحالها، قد طارت بلا رجعة» فهجرتها بلا رجعة إشارة إلى انتهاء الحرية.

رأس للشمس

يحمل مالك القلاف الرأس باعتباره رمزاً مدلولات تغاير مثلاً ما تحاوله البوذية باعتباره مقدساً لكونه المكان الذي تكون فيه الروح السامية، كلما اقتربت من الأرض كلما أظلم الجسد، وبالتالي تعتبر المعتقدات البوذية قدم الإنسان أرذل ما فيه. ولكننا في القصة نجد ارتداد الفعل في دورته الزمانية كما في (الكارما)، ويحمل الرأس تعبيراً عن العزة والكرامة التي يعبر عنها الإنسان في العصور التي تسمو فيها الأمة عامة بفضل قيادتها كما يحمل دلالة على الفكر المبدع لكون العجوز نحاتاً، وبالتالي يحافظ الإنسان على رأسه مرفوعاً لعدم الحاجة والحرية التي ينعم بها.

ومع موت الزعيم وتحت ضغط الحاجة يقرر بيع أحد التمثالين (وتحت وطأة رائحة رغيف الخبز، قرر العجوز أن يبيع أحد التمثالين) ليحتار بين بيع تمثال أمه أو بيع تمثال زعيم الأمة لأنه يؤمن بفكرة «فناء الأم وبقاء الأمة» تجعله يبيع تمثال أمه الذي يرمز إلى لغته والمنبع والانتماء ما يسبب في بداية الانهيار، رغم أنه ظل يحتفظ برأسه فوق كتفيه حتى تلك اللحظة.

ولكن ذلك لا يدوم فتتجمع في حانوته «خفافيش العتمة وكبّلته بتهمة التواطؤ، والدليل الرمز الثوري الذي يقبع على عتباته «أي الدكان، لتتسبب بعد اعتقاله كما يوحي النص في انهيار كرامته، والذي مثله سقوط رأس العجوز، كما يشير إلى سقوط فكره فتتدحرج رأسه، ولكنه لم يتدحرج بعيداً عن رمز الثورة، «مازالت العتبارت تراقب بذهول مشهد الدراهم وهي تتطاير في الهواء. وبعدها بقليل تبعها رأس العجوز ساقطاً على الأرض وقابعاً بجانب التمثال المتبقي.!!».

تبدو القصة القصيرة هنا متظافرة بعلاقات متعددة لمرموزات متكاثرة، يمكن إجمالها في التمثالين للأم والزعيم، والعتبات التي تشارك بأنسنتها في الحدث الذي يقوم على التعاطف مع التمثال، وسقوط الرجل العجوز الذي لا يسميه القاص هنا، والنوارس ورائحة رغيف الخبز، والرأس، حرارة الشمس، دخان السماء، الرجل الأشقر، الدراهم، بينما يكون الراوي العليم هو الذي يروي ويعرف التحولات الأخلاقية للانكسار، وتبدو القصة متماسكة في منطقها الداخلي من خلال إقامة العلاقات التي يقوم بين كل تلك المرموزات والتي قد توحي بشيء من الغموض العام، ولكنه أمر لجأ إليه كثير من الكتاب في حالة انحسار مساحة حرية التعبير.

العدد 4403 - الجمعة 26 سبتمبر 2014م الموافق 02 ذي الحجة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً