هناك ألف عام غامضة في تاريخ البحرين تمتد بين الأعوام 3200 - 2300 ق.م.؛ حيث اختلف الباحثون على حقيقة وجود استيطان على جزيرة البحرين في هذه الحقبة. نتائج التنقيب في موقع قرية الحجر أعطى نتائج مهمة، ولكن هل يوجد ما يرجح صحة هذه النتائج؟ فصول قصة الألف عام الغامضة متناثرة بين أكثر من قرية لكنها بدأت من قرية الحجر، التي سبق الحديث عنها في الحلقة السابقة، إلا أن هذه القصة أهملت، لا نعلم ما هي الأسباب، على رغم أن الكشوفات الآثارية الحديثة ترجحها، بل إنها ترسم تاريخاً جديداً لدلمون التي ربما بدأت في البحرين قرابة العام 3000 ق. م.، على رغم أن الرواية الرسمية تحدد أن دلمون بدأت في البحرين قرابة العام 2300 ق. م. فما قصة هذه الألف عام الغامضة؟
نعلم أن أرض البحرين بدأ الاستيطان فيها منذ أن تكونت كجزيرة، إلا أن هوية الجماعات التي استوطنتها غير محددة فلا يوجد شيء خاص بها يمكن أن نجعل منه رمزاً لهويتها، كل ما نعلمه أن ما عثر عليه شبيه باللقى الآثارية التي عثر عليها في مناطق أخرى في شبه الجزيرة العربية (Cleuziou 1999). ومنذ بداية الحضارة في جنوب الرافدين نشأت هناك علاقة بين الجنوب الرافدي وبين الساحل الشرقي للخليج العربي وبالتحديد في الحقبة العُبيدية الممتدة ما بين 5300 - 4300 ق. م. (Carter 2006). وبدأ ظهور فخار العُبيد في البحرين منذ نهاية الألف الخامس الميلادي؛ حيث وجدت هذه الكسر بشكل خاص في مستوطنات صيادي السمك في منطقة المرخ (ليست هي قرية المرخ)، وعالي ومنطقة أخرى بالقرب من الدراز وبني جمرة و قرية المرخ، وكانت قد وجدت آثار أقدم من فخار العبيد في سار (Cleuziou 1999, Larsen 1983).
بعد ذلك حدثت قطيعة بين الجنوب الرافدي وشرق الجزيرة العربية، وربما يعود ذلك لتغير الظروف المناخية التي أدت إلى أن تكون منطقة شرق الجزيرة العربية شبه خالية من السكان (Uerpmann 2003). ثم بدأت العلاقات تعود قرابة العام 3300 ق. م.، أي في حقبة جمدة نصر، حيث عثر على آثار في شرق الجزيرة العربية تدل على وجود استيطان في الحقبة 3300 - 2400 ق.م (Piesinger 1983, p. 467).
وفيما يخص الآثار التي عثر عليها في البحرين، فثمة ثغرة تاريخية غريبة وهي عبارة عن فجوة من مئات من السنين بين انتهاء الحقبة العُبيدية قرابة 3500 ق. م. وحتى الفترة التي ظهرت فيها هوية مميزة للبحرين وذلك في قرابة 2300 ق. م. خلال تلك الفجوة التاريخية التي تبلغ أكثر من 1000 عام ظهرت هوية دلمون الأسطورية، وكذلك ظهر اسم دلمون مرتبطاً بمنطقة جغرافية معينة مازال الباحثون مختلفين على تحديدها، والمرجح أنها كانت في شرق الجزيرة العربية؛ والسبب في ذلك أنه لم يعثر في جزيرة البحرين على آثار تدل على وجود استيطان في هذه الحقبة (Potts 1983). وباتفاق جميع الباحثين في حضارة دلمون فإن النصوص العائدة لهذه الحقبة، أي 3200 - 2300 ق. م.، لا تمتّ بصلة لجزر البحرين بل ترتبط بمنطقة أخرى أقيمت عليها حضارة دلمون الأولى. أما النصوص التي ذكرت دلمون وتم ربطها بجزر البحرين فهي النصوص التي بدأت منذ العام 2300 ق. م. (بوتس 2003 ج1 ص 176 و ص 298 - 300).
إلا أن اللقى الآثارية المتراكمة التي عثر عليها في البحرين تشير لوجود لقى مهمة تعود لحقبة جمدة نصر 3200 - 3000 ق. م. هذه اللقى تشير بوضوح لوجود استيطان في جزر البحرين منذ بداية ذكر دلمون في حضارة وادي الرافدين. من هذه اللقى قبر يعود لهذه الحقبة تم اكتشافه في منطقة الحجر.
موقع الحجر الأثري
يتكون موقع الحجر من عددٍ من التلال، وكل تل يحوي على عددٍ من القبور، ولقد نقب في هذا الموقع في أربعة مواسم مختلفة، ويمكن تقسيم تلك المواسم إلى فترتين أساسيتن، الفترة الأولى بين سنتي 1970م و1976م، والتي شملت دراسة التل رقم 1 و2، أما الثانية فكانت في الأعوام 1992م و1993م وشملت الدراسة دراسة التل رقم 7 (صويلح 2009، ص266 - 274 وص 322 - 324). وأهم الاكتشافات عثر عليها في التل رقم 7 الذي يحتوي على مستوطنة دلمونية سنناقشها في الفصل القادم. وكذلك، في التل رقم 1 وبالتحديد القبر رقم 1 في هذا التل وهو محور حديثنا في هذا الفصل. وهذا القبر أثار الجدل في بداية السبعينيات حيث عثر فريق التنقيب فيه على ختم يشابه أختام فترة جمدة نصر التي تعود للحقبة 3200 - 3000 ق. م. وبالإضافة إلى الختم عثر أيضاً فيه على فخار يعود للعصر الكاشي (1600 - 1200 ق. م.) (Rice 1971, 1988).
وقد صاغ Rice نتيجة مفادها أن هذا القبر استعمل على مرحلتين، المرحلة الأولى التأسيسية ويعود تاريخها إلى نحو العام 3000 ق.م، وقد تأكد هذا التاريخ من الختم الذي عثر عليه فريق التنقيب في هذا المدفن. وفي المرحلة الثانية من استعمال المدفن تم فصل جزء من طوله (قرابة متر) بإضافة جدار في الجهة الشرقية من امتداده، وقد عملت في الجدار درجتان للدخول والخروج من المدفن عند الحاجة. وتعود هذه المرحلة إلى العصر الكشي (1600 - 1200 ق. م).
وهناك ملاحظة بشأن ختم جمدة نصر الذي عثر عليه في القبر رقم 1 وهو أنه أعيد قطعه في زمن لاحق، ربما العصر الكشي، وأعيد استعماله. وعلى هذا الأساس شكك البعض أن يكون الختم وجد البحرين في حقبة جمدة نصر، بل ربما أنه جلب إلى البحرين في وقت لاحق، الحقبة الكشية، وتم قطعه وإعادة استعماله (بوتس 2003، ج1، هامش ص 142). إلا أننا نرجح ما ذهب إليه الأغلبية بأن هذا القبر بني في مرحلة جمدة نصر وأعيد استخدامه في الحقبة الكشية. وهذا يعني أنه كان يوجد استيطان في البحرين في الحقبة (3200 - 2300 ق. م) وهي حقبة الألف سنة الغامضة في تاريخ دلمون. ومما يجعلنا نرجح ذلك هو اكتشاف قطع آثارية أخرى تعود لحقبة جمدة نصر في مناطق أخرى في البحرين.
آثار جمدة نصر في البحرين
القبر الذي اكتشف في الحجر في العام 1970م ليس استثناء، ففي العام 1986م اكتشف قبر آخر في تلال القبور التي تقع في شرق قرية كرزكان، وهذا القبر يعود أيضاً لحقبة جمدة نصر. هذا القبر الأخير تم دراسته بصورة مفصلة وتم تحليل جميع اللقى التي توجد فيه وجميعها تعود للحقبة نفسها، إلا أن القبر أعطي حقبة تاريخية واسعة هي 2600 - 3200 ق. م. (Laursen 2013). أضف إلى ذلك أن معابد باربار شيّدت على منطقة كانت في الأصل مستوطنة تعود لحقبة جمدة نصر؛ حيث عثر على قطعة فخار تعود لتلك الحقبة (Mortensen 1986).
ربما يشكك البعض بوجود مستوطنات تعود لحقبة جمدة نصر في البحرين بسبب قلة اللقى الآثارية، ولكن السؤال، هل تم التنقيب في جميع تلال القبور والمواقع الأثرية بصورة منظمة؟ المعروف أن غالبية عمليات التنقيب كانت عمليات إنقاذ لتلك المواقع قبل أن يتم إزالتها وتشييد المباني مكانها. هناك العديد من المستوطنات أو القرى الدلمونية التي لم ينشر عنها شيء بصورة مفصلة، وربما لا يعلم عنها إلا ذوي الاختصاص والعاملون في عمليات التنقيب، ومن هذه المستوطنات قرية الحجر الدلمونية والتي سنتناولها بالتفصيل في الحلقة المقبلة.
العدد 4403 - الجمعة 26 سبتمبر 2014م الموافق 02 ذي الحجة 1435هـ